قال: (وتلقين أستاذ) أي: الأخذ على المشايخ، وعدم الأخذ من الكتب، وكانوا يقولون: لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي.
لأنك عندما تأخذ العلم من الصحف أو من الكتب فقد يخطئ الناسخ في نقطة واحدة فيتغير معنى الكلام، وعلماء الحديث لهم كتب في ذلك حصدوا بها الكتب المصحفة، مثل كتب التصحيف والغلط في الكتاب.
فإن: القرآن الكريم الذي نقلته الأجيال عن الأجيال، بأعلى درجات التواتر، نجد من يخطئ في قراءته.
ولنذكر لذلك بعض الأمثلة: كان هناك رجل في الكلية يسمعني وأنا أتكلم وأقول: لا يوجد حفظة، وهناك أناس لا يستطيعون قراءة القرآن فظن أنني أبالغ، فقال: إن كل الناس يقرءون القرآن، فقلت له: اقرأ، فقام وأخذ المصحف، وفتح على سورة هود، فقرأ قوله تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ} [هود:48]، فقال: (بسلَّم)، مع أن هذا هو رسم المصحف، لكنه ظنها (بسلَّ) وهي (بسلام)! وهناك إمام قام يؤم الناس فقرأ سورة التكاثر فقال: (إلهكم التكاثر)، -أي: ربكم- فقالوا له: إنما هي (ألهكم)! وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في أخبار الحمقاء والمغفلين: أن رجلاً عالماً دخل قرية من القرى، فاستضافه إمام هذه القرية وقال له: عندي بعض إشكالات في القرآن أريد أن أستشيرك فيها -وهو إمام الجماعة- فقال له العالم: تحدث، فقال: قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك ستين أم تسعين؟) وكانوا في الزمان الأول لا يعجمون الحروف -أي: لا يضعون عليها النقاط- فقد استحدثت هذه النقاط فيما بعد، فكانوا يكتبون بلا إعجام، فكلمة (نستعين) لو أهملت فقد تقرأ (تسعين)، فقال الإمام للعالم: وإياك تسعين أم ستين؟ ثم قال: وعلى أي حال فأنا أقرؤها (تسعين) أخذاً بالاحتياط!! فهذا يحصل في كتاب الله عز وجل، فكيف بكتب الحديث؟! ومن طريف ما يذكر في سبب تسمية الإمام حمزة بن حبيب (بـ الزيات) -وهو أحد القراء السبعة - قالوا: إن هذا اللقب التصق به لأنه كان يقرأ في أول سورة البقرة فقرأ: (الم، ذلك الكتاب لا زيت فيه) فقال له أبوه: قم واطلب العلم على أيدي الشيوخ، فسمي منذ ذلك بـ الزيات من أجل قراءته: (لا زيت فيه).
وآخر من طلبة الحديث قرأ قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] فقال: (فضرب بينهم بسنور له ناب).
فإذا كان التصحيف وقع في القرآن الكريم مع جلالته وعظمته وكثرة الحافظين له، فما بالك بكتب الحديث الذي لا يكاد يضبطها إلا أفذاذ أفراد بعد أفراد، فعلماء الحديث قد استحدثوا ضوابط في ضبط الكلام.
مثلاً: عن ابن عباس يروي راويان، واحد كنيته أبو (حمزة) والثاني كنيته أبو (جمرة).
فكانوا يكتبون فوق أبي حمزة: (حور عين)، حتى تعرف أنها حاء وليست جيماً، وعلماء الحديث ابتكروا أساليب لحفظ الكتب لم تتفتق أذهان البشرية عنها.
وفي ذات مرة بعث أمير المؤمنين إلى أحد الولاة فقال له: إن المخنثين أفسدوا البلد فأحصهم أي: عدهم، وأجر عليهم التعزير.
وقال للكاتب: اكتب إليه: أحصِ من عندك من المخنثين، فوضع الكاتب نقطة فوقها فصارت (اخصِ من عندك من المخنثين) فدعاهم الوالي فخصاهم، وهذا كله بسبب نقطة واحدة.
وفي أيامنا هذه تعسرت القراءة الصحيحة لعدم وجود الضابطين المدققين، فتجد طالب العلم بعد ضياع المدققين يقرأ في الكتب، ويخطئ في فهم كثير من الأشياء.
فكان لابد من الدراسة على أيدي المشايخ، فقد أصبحت ضرورة أكثر من أي عهدٍ مضى؛ لأن الطالب لا يميز الصحيح من التصحيف.