فـ الأعمش -سليمان بن مهران- رحمه الله، كان يقول: (لو كنت بقالاً لاستقذرتموني)، وهو أشهر من أذل علماء الحديث، كان كلما يأتي إليه طالب ويقول له: حدثني حديثاً، يأبى عليه.
وفي ذات مرة خرج في جنازة، فعلم أحد طلاب الحديث بخروجه، فتبعه وأخذ بيده وقال له: أصحبك يا أبا محمد! وهم يمشون في الجنازة، فأخذ الطالب ينحرف به عن الطريق حتى وصل به إلى مكان خالٍ من الناس.
فقال: يا أبا محمد! أتدري أين أنت؟ قال له: لا.
قال: أنت في جبانة كذا وكذا، ووالله لا أردك إلى البلد حتى تملأ ألواحي حديثاً.
فحدثه حتى ملأ الواحة، وعاد به إلى البلد، وفي الطريق أعطى هذا الطالب الألواح لزميل له، ومضى مع الشيخ ليرده إلى البلد، فلما سمع الأعمش الأصوات عرف أنه في البلد، فأمسك الطالب وجعل يصرخ: أخذ مني الألواح، فقال له الطالب: لقد أعطيتها فلاناً، فقال الأعمش: كل ما حدثتك كذب، فقال: أنت أعلم بالله من أن تكذب.
فإذا أتى طالب العلم إلى حلقة العلم وهو رافع أنفه لأنه فلان ابن فلان؛ فإنه لا يصلح لطلب العلم، ولأجل ذلك كان الشيخ يقسو عليه ويكسر داعي الكبر فيه.
ولله در مجاهد بن جبر حين قال: (لا يتعلم اثنان: مستحٍ ومتكبر)، فالمستحي يحمله الحياء أن يظهر بمظهر طلاب العلم، والمستكبر: يرى أن هذا العمل لا يناسبه، فهو ابن فلان أو ابن علان، ولذلك لا يتعلم إلا من كُسر فيه داعي الكبر.
وجاء رجل إلى الأعمش، فقال: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ الأعمش بحلقه وأسنده إلى الحائط وقال: هذا إسناده.
وجاء رجل من الغرباء إلى حلقة الأعمش، وكان الأعمش لا يحب أن يجلس أمامه أحد، فجاء والمجلس ممتلئ ولا يوجد مكان إلا بجانب الأعمش، فقعد بجانبه، فكان الأعمش يقول: حدثنا فلان، ويبصق عليه، فصبر الطالب على هذا البصاق حتى انتهى المجلس.
ومما يروى في شدة الأعمش مع تلاميذه: أنه عندما أكثروا عليه، وكل يوم يأتون إلى منزله، اشترى كلباً، وكان الكلب عندما يسمع أقدام المحدثين يلحق بهم، فيهربون، وفي ذات مرة كان هناك ثلاثة تلاميذ وهم: أبو إسحاق السبيعي، وشعبة، وسفيان الثوري، فذهبوا إلى بيت الأعمش، وكانوا كلما أتوا إليه خرج عليهم الكلب، فيفرون ويرجعون مرة أخرى، فذات يوم اقتربوا من البيت بحذر خشية أن يخرج عليهم الكلب، وكانوا كلما اقتربوا لا يسمعون حسيساً للكلب، حتى وصلوا الدار ولم يخرج الكلب، فدخلوا على الأعمش، فلما أحس بهم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟!! قال: لقد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أي: الكلب.
وهل كان الأعمش شحيحاً بحديثه؟ لا.
بل كان الأعمش من أكثر الناس حديثاً، وحديثه منتشر ومبثوث في الكتب.
لكن لم هذه الشدة؟ لتأديب طلبة العلم، وقد ورث عنه هذه الشدة تلميذه: أبو بكر بن عياش، فقد كان شديداً، فجاءه تلاميذه يوماً فقالوا: يا أبا بكر! حدثنا بحديث، فقال: ولا بنصف حديث، فقالوا له: رضينا منك بنصف حديث، فقال: اختاروا السند أو المتن؟ والسند: هو سلسلة الرجال، وسمي سنداً لأن كل راوٍ يسند ما سمعه إلى شيخه، وهذا يسنده إلى شيخه وهكذا، فقيل: مسند، أو قيل: سند، والمتن: هو الكلام نفسه، فقال لهم: اختاروا السند أو المتن؟ فقالوا: يا أبا بكر! أنت عندنا إسناد، فأعطنا المتن، فقال: (كان إبراهيم يدحرج الدلو).
فقال الخطيب البغدادي: انظر إليه! شح عنهم بما ينفعهم.
ومع ذلك كانوا يتهافتون عليه.
والإمام يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل (أكبر موسوعة للرواة) أتى إليه رجل مستعجل، وقال له: حدثني بحديث أذكرك به.
فقال له: (اذكرني إذ طلبت مني فلم أفعل).
أي: إذا كنت تريد أي شيء للذكرى، فاذكر رفضي تحديثك، وأبى أن يحدثه.
وعلماء الحديث كانوا يفعلون هذا تأديباً لطالب العلم.
وهذا أبو يوسف كان معه حلقة تضم بعض طلبة العلم، وذلك في حياة أبي حنيفة، فبعث أبو حنيفة أحد تلامذته وأمره أن يسأل أبا يوسف بها، فحضر حلقته وبدأ يسأل، فسأل السؤال الأول فأجاب أبو يوسف، فقال السائل: أخطأت، وكذا في السؤال الثاني والثالث.
فقال أبو يوسف: والله ليس هذا من قولك، هذا من قول أبي حنيفة، ومعنى ذلك أنه وصلت أبا يوسف الرسالة التي أرسلها أبو حنيفة، فكأنه قال له: لست شيخاً، ولا تصلح أن تكون شيخاً الآن، فرجع أبو يوسف فلزم مجلس أبي حنيفة إلى أن مات.
وكذلك ما يروى عن الإمام الشافعي أنه عندما ذهب يتعلم ويأخذ العلم عن محمد بن الحسن الشيباني -والإمام الشافعي أرفع قدراً في العلم وأتبع للآثار من محمد بن الحسن، مع جلالة الكل رحمة الله عليهم- فذهب الشافعي إلى محمد بن الحسن الشيباني وجلس في مجلسه كالتلميذ، وكان لا يعجبه بعض ما يفتي به محمد بن الحسن، فكان لا يواجه محمد بن الحسن في المجلس، ويقول له: أنت أخطأت، لكن كان الشافعي بعدما يقوم محمد بن الحسن من المجلس يقوم ويناظر بعض طلابه فيظفر عليهم، ولا يستطيعون الإجابة، فلما أكثر الشافعي عليهم شكوه إلى محمد بن الحسن، وقالوا له: عندما تقوم من هنا يأتي والشافعي فيلزمنا بإلزامات لا نستطيع أن نرد عليه، فلما جاء محمد بن الحسن وجلس في المجلس قال للشافعي: بلغني أنك تجادل أصحابي وتناظرهم، فهلا ناظرتني، فقال له الشافعي: إني أجلك عن المناظرة.
أي: لأنك شيخي، وأنت أرفع من أن يناظرك مثلي.
فقال له محمد بن الحسن: لابد أن تناظر.
فناظره الشافعي فظفر عليه، فرجع محمد بن الحسن إلى كثير من أقوال الشافعي، رحمة الله عليهم أجمعين.
وقد استعمل الشافعي هذا الأدب وهو عند مالك، فقال: (كنت أقرأ الموطأ على مالك فأصفح الورق صفحاً رقيقاً لئلا يسمعه مالك).
وهذا الأدب ورثه تلاميذ الشافعي، فهذا الربيع بن سليمان المرادي راوي كتب الشافعي، يقول: والله ما جرئت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ.
وأنا والله لقد انتفعت بهذا غاية النفع، عندما رحلت إلى الشيخ الألباني رحمه الله سنة (1406هـ) ووجدت أن الأدب هو الذي يجعل للتلميذ منزلة في قلب الشيخ.
وكان الزهري الإمام العالم محمد بن مسلم يقول: (لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً حينما كان يماري ابن عباس)، وذلك أن أبا سلمة كان كلما أتى ابن عباس يدخل معه في جدال، وكان ابن عباس يحجب عنه علمه ولا يفيده.
وأبو سلمة كان إذا علم علماً ظهر به.
وقد سمعته عائشة رضي الله عنها يحدث بحديث: (الماء من الماء)، وهذا كان في أول الإسلام.
(الماء الأول) هو الغسل -ماء الاغتسال- و (الماء الثاني) ماء المني.
والمعنى: أ، الرجل إذا أمنى اغتسل، فقد كان هذا الحكم في أول الإسلام، ثم نسخ، فصار الاغتسال بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل)، وعند مسلم: (وإن لم ينزل)، على خلاف بين العلماء، فعندما سمع أبو سلمة حديث: (الماء من الماء) من بعض الصحابة؛ كان دائماً يردده، وفي ذات مرة كانت عائشة تسمعه، فقالت: (يا أبا سلمة! أتدري ما مثلك؟ إن مثلك كمثل الفرّوج يسمع الديك يصيح فيصيح) أي: لست بعالم، فهي تريد أن تقول: أنت لم تتحقق مما تقول، إنما سمعت رجلاً يصيح فصحت، إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) أي: لقد قلت قولاً لم تتحققه.
وأبو سلمة هذا بخلاف ابن جريج، فقد قال ابن جريج: (لقد استخرجت علم عطاء بالرفق).
فقد لازمه عشرين سنة، فأخذ عنه كل علمه بالرفق.
وابن حبان -صاحب الصحيح- تلميذ ابن خزيمة -صاحب الصحيح أيضاً- كان يرحل بعد ابن خزيمة في كل سفر، ويكتب عنه كل شيء، وذات مرة كان ابن حبان يسأله حتى تضجر منه ابن خزيمة، فقال له: تنح عني، فقام ابن حبان وأمسك القلم وكتب: تنح عني.
وقال: لا أدع كلمةً للشيخ إلا كتبتها، فقد أستفيد منها يوماً ما.
وأنا عندما ذهبت إلى الشيخ الألباني كنت آتيه فيتعذر بضيق وقته، فقلت له: أعطني خمس دقائق، لأنني ما رحلت إليه إلا لكي أسمع منه.
فقلت في نفسي: إذا كنت خرجت من بلدي لطلب العلم فسيصلح الله أمري، وإذا كنت خرجت رياءً فجزاءً وفاقاً لي سأرجع خائباً، فجئنا في فجر اليوم التالي، فقال لي: سأعطيك عشر دقائق كل يوم، ومنَّ الله عليَّ، حتى أصبحت هذه العشر الدقائق ساعة، فكنا يوم نخرج معه بالسيارة، ونسأله أسئلة وهو يجيب عنها.