موقف آخر لصحابي لا تعرفه الجماهير، لكنه بطل مغوار وفارس شجاع، روى الإمام مسلم في صحيحه خبره العجيب، وهو سلمة بن الأكوع، وسلمة كان رجلاً شجاعاً، وعداءً سريعاً لا يلحق.
يقول إياس بن سلمة: حدثني أبي قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية ونحن أربع عشرة مائة -ألف وأربعمائة- وعليها خمسون شاة لا ترويها.
قال: فقعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبا الركية -على شاطئ البئر- فإما دعا وإما بصق، فجاشت فسقينا واستقينا.
قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة.
قال: فبايعته أول الناس، ثم بايع وبايع، حتى إذا كان في وسط من الناس قال: بايع يا سلمة؟ قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس.
قال: وأيضاً، قال: ورآني عزلاً -أي ليس معه سلاح- فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة أو درقة، ثم بايع.
حتى إذا كان في آخر الناس قال: ألا تبايعني يا سلمة؟ قال: قلت: يا رسول الله! قد بايعتك في أول الناس وفي أوسط الناس! قال: وأيضاً، قال: فبايعته الثالثة.
ثم قال لي: يا سلمة! أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟ قال: قلت: يا رسول الله! لقيني عمي عامر عزلاً فأعطيته إياها.
قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنك كما قال الأول: اللهم أبغني حبيباً هو أحب إلي من نفسي)، ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض، وكنت تبيعاً لـ طلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحثه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجراً إلى الله ورسوله، قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة، فكسحت شوكها، فاضطجعت في أصلها.
قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم على الشجرة، قال: فبينما هم كذلك، إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين! قتل ابن زنيم.
قال: فاخترطت سيفي -أخرجته من جرابه- ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سيوفهم فجعلتها ضغثاً في يدي.
قال: ثم قلت: والذي أكرم وجه محمد لا يرفع أحدكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه.
قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف في سبعين من المشركين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه)، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24] قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة، فنزلنا منزلاً بيننا وبين بني لحيان -وهم المشركون- فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقى هذا الجبل الليلة قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثاً، ثم قدمنا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه -الظهر: الإبل والبغال والحمير- وخرجت معه بفرس طلحة، فلما أصبحنا إذ عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع وقتل راعيه.
قال: وقلت: يا رباح: خذ هذا الفرس، فأبلغه طلحة بن عبيد الله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه، قال: ثم قمت على أكمة، فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثاً: يا صباحاه! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز أقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع - الرضع هم اللئام، يقال: لئيم راضع: لأن اللئيم إذا أراد أن يشرب من لبن الشاة يرضع ويمص لبنها من ثدي الشاة حتى لا يسمع الناس أنه يشرب ويشاركونه في اللبن، فيقال: لئيم راضع، فاليوم يوم الرضع أي: هذا هو يوم اللئام- قال: فألحق رجلاً منهم، فأصك سهماً في رحله حتى خلص نصل السهم إلى كتفه، قال: قلت: خذها: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع فرس أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم رميته فعقرت به، حتى إذا تضايق الجبل -دخلوا في تضايقه- علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة.
قال: فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم تبعتهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً يستخفون -يستخف نفسه لكي يفر، فأي شيء يسبب ثقل الحركة والمشي يتركونه- قال: ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى إذا أتوا متضايقاً من ثنية، فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري فجلسوا يتضحون (أي: يتغدون) وجلست على رأس قرن.
قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح والله ما فارقنا منذ غلس، يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا.
قال: فليقم إليه نفر منكم، فصعد إلي أربعة منهم.
فلما أمكنوني من الكلام قلت: ألا تعرفوني؟ قالوا: لا.
قلت: أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني.
قال أحدهم: أنا أظن -يعني: لا يستطيعون ذلك- فرجعوا، فما برحت مكاني حتى رأيت غبار فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر.
فإذا أولهم الأخرم الأسدي على أثره أبو قتادة، وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندي.
قال: فأخذت بعنان الأخرم.
قال: فولوا مدبرين.
وقلت: يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قال: يا سلمة! إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة.
قال: فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن الفزاري.
قال: فعقر بـ عبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه، ولحق به أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم -بـ عبد الرحمن - فطعنه فقتله، فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم اتبعتهم أعدو على رجلي، حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئاً -كان عداءً سريعاً جداً- حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له: ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش، قال: فنظروا إلي أعدو وراءهم، فحليتهم عنه (أي: أجليتهم عنه) فما ذاقوا منه قطرة.
قال: فيخرجون فيشتدون في ثنية.
قال: فأعدو فألحق رجلاً منهم، فأصكه بسهم في نغص كتفه.
قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: يا ثكلة أمه! أكوع بكرة؟! قال: قلت: نعم يا عدو نفسه أكوعك بكرة قال: وإذا بلال قد ذبح ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها.
قال: قلت: رسول الله! خلني أنتخب مائة رجل، فنتبع القوم -نفسه طويل- فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أو كنت تفعل ذلك يا سلمة؟ قال: نعم والذي كرمك.
قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه في ضوء النهار، فقال عليه الصلاة والسلام: إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان إلى آخر الحديث.
قال سلمة: فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليالٍ حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجعل عمي عامر يرتجز: تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال عليه الصلاة والسلام: من هذا المرتجز؟ قال: أنا عامر قال: يرحمك ربك أو قال: يغفر لك ربك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استغفر لرجل يخصه بذلك استشهد، فقال عمر بن الخطاب لما سمع ذلك: يا رسول الله: ألا متعتنا بـ عامر؟ علم أنه سيموت، لما استغفر له علموا أنه سيقتل في المعركة.
فلما وصلوا إلى خيبر خرج مرحب -وكان ملكهم- يقول مرتجزاً: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فخرج عامر بن الأكوع وقال: قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر قال: فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله فمات.
فقال جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: بطل عمل عامر! قتل نفسه! قال سلمة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي، فقال: ما يبكيك يا سلمة؟ قلت: يا رسول الله! قال جماعة من أصحابك: بطل عمل عامر.
قال: كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين.
قال: ثم أرسلني إلى علي بن أبي طالب وهو أرمد فقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله.
قال: فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله فبصق النبي صلى الله عليه وسلم على عينيه فبرأ وأعطاه الراية، وخرج مرحب وقال: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال علي بن أبي طالب: أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندرة ثم تبارزوا فقتله علي ب