محمد بن مسلمة وأبو نائلة فـ أبو نائلة أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة، ومحمد بن مسلمة ابن أخت كعب، فلما كثر إيذاء كعب للنبي عليه الصلاة والسلام، قال: (من لـ كعب بن الأشرف؛ فإنه أذى الله ورسوله؟)، فقام محمد بن مسلمة قال: أنا له.
وقال أبو نائلة: وأنا كذلك.
قال محمد بن مسلمة: (يا رسول الله! أتأذن أن نقول له شيئاً -نكذب عليه، نغرر به- قال: نعم) فجاء محمد بن مسلمة إلى كعب وقال: إن هذا الرجل -يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد عنانا -كل يوم يطلب صدقة، ونحن تعبنا من هذا الموضوع- وجئنا نستسلفك صاعاً أو صاعين من شعير.
فقال كعب: -والله لتملنه أي: هذه البداية فقط، لكن أيضاً ستملونه- قال محمد بن مسلمة: إنا لا نريد أن نخالفه حتى نرى إلى أي شيء ينتهي أمره، لكن جئت أستسلفك وسقاً أو وسقين.
فقال كعب: ارهنوني نساءكم.
فقال محمد بن مسلمة: أنعطيك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! إذاً: يفتنَّ بك، فقال: ارهنوني أبناءكم.
قال: هذا عار علينا، يسب أحدهم يوماً فيقال: رهن بوسق من شعير أو وسقين، ولكن نعطيك اللأمة.
اللأمة: هي الدرع والسيف، وهذه كانت مبادرة ذكية من محمد بن مسلمة؛ لأنه لو جاء بالسيف لخاف كعب ولظن أن في الأمر شيئاً، فتواعدوا إلى اليوم الثاني، وكان كعب قد تزوج حديثاً من امرأة من العرب، يقال أنها أعطر العرب، أحسن امرأة تصنع العطر، وفي اليوم الموعود جاء محمد بن مسلمة وأبو نائلة في منتصف الليل، فناداه أبو نائلة: يا كعب! قال: من؟ قال: أبو نائلة انزل -هناك موعد-.
فقالت امرأة كعب: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم -امرأة ذكية، صوت أبي نائلة وهو ينادي كأنه يقطر دماً، كيف تنزل في هذه الساعة؟ - فقال لها: إن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب، لو أن إنساناً يستغيث في الشارع أنجده، فكيف وهذا رضيعي أبو نائلة؟! وكانوا قد جهزوا الخطة أن محمد بن مسلمة يمسك رأسه والبقية يضربون بالسيوف، فنزل كعب ينفح منه ريح الطيب؟! فقال محمد بن مسلمة: ما رأيت كاليوم عطراً! فقال كعب متبجحاً: كيف لا وعندي أعطر العرب.
فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم.
فأعطاه رأسه فشمه وتركه، ولم يهجم من البداية.
لكي يعطيه الأمان، وكل واحد من الموجودين جعل يشم رأسه ويتركه أيضاً، فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك مرة أخرى؛ فحينئذ أمسك محمد برأسه ثم قال: دونكم عدو الله فاضربوه، فضربوه فقتلوه، ومحمد بن مسلمة هو ابن أخته وأبو نائلة أخوه من الرضاعة، لكن إذا كان الأمر يقتضي ذلك والآمر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام فلا يتخلفون.
فالصحابة رضوان الله عليهم استطاعوا في عشر سنوات أن يكونوا دولة، والعرب جنس لا يصلح إلا بدين، كانوا قبل الإسلام أمة على هامش الدنيا، لا قيمة لها على الإطلاق، لم يكن لها دين، وإنما كانت الأرض آنذاك لفارس والروم، وكان العرب بدواً رحلاً، رعاة شاء، فجاء الإسلام فرفعهم إلى منزلة سامية، قادة أمم.
واليوم العرب أمة لا قيمة لها تعيش على ضفاف نهر الحياة، لأنها تخلت عن دينها، فلو رجع المسلمون اليوم إلى دينهم؛ لغزوا فارس والروم، وأخذوا أمريكا، وسيطروا على الفرس، لكنهم تركوا دينهم وحكموا القوانين الوضعية التي صنعها الغرب وأصبح الرجل لا يمشي في بلد من بلاد المسلمين بأمان الإسلام كما يمشي بأمان القانون، فالإسلام في المساجد فقط، تدخل المسجد الكتاب يحكمك، تخرج من المسجد القانون يحكمك وليس الإسلام، وشريعة الله عز وجل لا تحكم.
فهم الآن مثل أجدادهم الأوائل لا يتمسكون بدين؛ فلا قيمة لهم، لكن الصحابة تمسكوا بالدين، ففي عشر سنوات صارت لهم دولة! أخبروني عن أي جيل من بني آدم عليه السلام إلى الآن استطاع أن يكون له دولة في عشر سنوات، وهي المدة من بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة إلى وفاته، لماذا؟ لأنه كان عندهم مثل هذا الصنف النفيس من الصحابة الكرام.
وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قامت الفتن في عصره، فقال له قائل: لم ثارت الفتن في عصرك ولم تثر في عصر عمر؟! قال: لأن عمر كان والياً على مثلي، وأنا وال على مثلك! اختلفت نوعية الرجال، وأزمتنا في الحقيقة أزمة رجال، لذلك نذكر الجماهير بحياة الصحابة، فهم الأسوة العملية، والذين يطعنون الآن في الصحابة قد طعنوا في الإسلام كله، ولله در الإمام النسائي رحمه الله لما جاءه رجل فقال: إن رجلاً يتكلم في معاوية بن أبي سفيان، فقال الإمام النسائي رحمه: إنما الإسلام دار والصحابة الباب، فمن نقر على الباب إنما أراد الدخول، ومن أراد الصحابة إنما أراد الإسلام.
ولما قيل لـ أبي زرعة الرازي رحمه الله: إنهم يتكلمون في الصحابة.
قال: (يريدون أن يطعنوا في شهودنا، وهم أولى بالطعن، وهم زنادقة).
يريدون أن يطعنوا في الصحابة وهم الذين نقلوا إلينا الدين، إذا سلمنا بالمقدمة سلمنا بالنتيجة، الصحابي نقل دين الله، فإذا قلت: هذا الصحابي ليس بعدل، قلت: الذي نقله كذب، فالذين يتكلمون على الصحابة يريدون الطعن في الدين؛ لأجل هذا كان ينبغي علينا أن ننظر في حياة الصحابة، فليس لهم نظير في الابتلاء والحب والقول، كما سأعرض عليكم نماذج من ذلك إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.