المسألة الخامسة: بسبب هذا الفصل ظهرت أمور أشير إلى شيء منها، هذه الأمور نراها جلية في كثير من الدعوات الإسلامية المعاصرة: أولاً: اتخاذهم رءوساً جهالاً أغلبهم لا يفقهون من الدين إلا ما يحلو لهم، وغاية ما يملك بعضهم من العلم إنما هو مجرد أفكار وثقافات أشتات، بل زاد كثير منهم مجرد العواطف والحركة، حتى كاد يكون مصطلح الداعية عندهم من ليس بعالم، وأن العالم ليس بداعية، وأحياناً يقولون: فلان داعية، يعني: ليس بعالم، وفلان شيخ من المشايخ، يعني: ليس بداعية! ثانياً: قلة وجود العلماء والمشايخ المتفقهين في الدين، والمتضلعين في العلوم الشرعية في أكثر الدعوات المعاصرة، مع أن وجود أهل العلم المتفقهين في الدين هو شرط من شروط الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وخاصة الدعوات الكبرى التي ينضوي تحت لوائها مجموعات وفئام من الناس، فهذه لا ينبغي أن يفقد فيها العالم، أو يكون العالم فيها مغمور، أو لا يتصدر الدعوة.
ثالثاً: قصور النظرة في فهم قدر ومنزلة العلماء والمشايخ عند كثير من أتباع هذه الدعوات، ومن هنا وجد من بعضهم اتهام للعلماء بالقصور أو التقصير أو قلة الوعي، أو أي نوع من أنواع التنقيص؛ لتبرير عدم صلة الدعاة بالعلماء، بل إن بعض الدعاة يرفع نفسه ودعوته على حساب الكلام في أعراض العلماء، وهذا الأمر وإن كان مؤلماً لكن لابد من ذكره، ولابد من السعي لعلاجه.
رابعاً: توريط بعض شباب الأمة بالانتماء للشعارات والقيادات الدعوية أكثر من الانتماء لأهل السنة والجماعة، ولأهل العلم من المشايخ والعلماء.
خامساً: فصل الشباب عن أئمتهم ومشايخهم وعلمائهم، وحجبهم عن النظرة الشرعية الشمولية للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وعن غاياتها ومناهجها، وعن النظرة إلى أئمة السنة قديماً وحديثاً، بل إن بعض الدعوات تربي شبابها على جوانب من مناهج السلف؛ لتخدم أهدافها أو تخدم الجماعة وشعاراتها، وتغفل الجوانب الأخرى من السنة والعلم، وهذه من أساليب أهل الأهواء وأهل البدع، فيأخذون من الأئمة ومن العلماء ما يحلو لهم من قول أو فعل ويتركون الباقي، وهذا خلل في النظرة وخلل في المنهج.
سادساً: نتج عن هذا الفصل بين الدعاة والعلماء كثرة الشعارات والأهواء والانتماءات والافتراقات والعصبيات لجماعات أو لأشخاص، مع العلم أن الأمة لا يجمعها على السنة والخير إلا علماؤها، ومهما بالغت الفرق أو مهما بالغت الجماعات والدعاة في أي مكان وفي أي زمان للسعي إلى جمع المسلمين دون الاسترشاد بأهل العلم، ودون أن يجعلوا هم القادة وهم الموجهين وهم المرشدين للدعوات فإن الشمل لن يجتمع.
سابعاً: نتج عن هذا العزل بين العلماء والدعاة أن نشأ في الدعوات المعاصرة أو بعض الدعوات -لئلا نظلم الذين هم على استقامة- مناهج وأفكار وكتب ومؤلفات معزولة عن السنن، وعن العلوم الشرعية بشموليتها، بل وحتى بتفصيلاتها، وصارت كل طائفة تأخذ من العلوم الشرعية ما يناسب أوضاعها، وهذا أسلوب من الأساليب الخاطئة التي تخالف منهج السلف، بل حتى نشأ في الدعوة في بلاد العالم الإسلامي علم يشبه علم الكلام لدى الجماعات في ارتباطه بالأهواء والأشخاص لا بالسنن والأئمة.
كما برزت في الآونة الأخيرة نتيجة لهذا الفصل بين الدعاة والعلماء دعوات كبرى، قوامها وركائزها رءوس ليسوا بعلماء، وتعتمد على أفكار وحركات محدثة تخالف هدي الإسلام، وعلى عواطف لا تضبطها القواعد الشرعية ولا المصالح المعتبرة.
ثامناً: نتج أيضاً عن هذا الفصل التقصير في طلب العلم الشرعي على أصوله ومناهجه السليمة الصحيحة، بل نتج عن ذلك الحيلولة بين أتباع الدعوات وبين تحصيل العلم عن المشايخ، حتى إن كثيراً ما ترد إشكالات وشكاوى من بعض الشباب في شتى العالم الإسلامي، يشكون فيها من صرف بعض الدعاة لأتباعهم عن العلماء بذرائع شتى، بل إن بعضهم -كما علمت وتأكدت من هذا- قد يعاقب الشاب الذي ينتمي إليه بسبب لماذا جلس يطلب العلم الشرعي على الشيخ فلان؟! ونتيجة لذلك حصل الخلل، فقد فهم بعض الدعاة -هداهم الله- بسبب العزلة بينهم وبين المشايخ: أن المشايخ أعداء للدعوة، وسبب ذلك أن في دعواتهم أمراضاً ومصائب لا يرضاها العلماء، وقد ينتقدونها، فمن هنا تعللوا بصرف شبابهم عن المشايخ وعن أهل العلم والفقه في الدين، وهذا مسلك خطير ينبغي ألا يستمر، بل يجب مناصحة هؤلاء الدعاة وبيان الحق لهم.
تاسعاً: في بعض الدعوات التي تسلك هذا المسلك ظهرت فئام من الجماعات والدعاة والشباب في البلاد الإسلامية عددها ليس بالقليل، شيوخهم بعضهم على قلة في الفقه وضعف في العلم، أو شيوخهم كتبهم، فيرشحون ما يريدون من كتب فكرية وثقافية، وأغلب ما تعتمد عليه هذه الجماعات الكتب الفكرية والثقافية أكثر من الكتب الشرعية، وقادتهم مع الأسف جهالهم، وأحكامهم أهواؤهم، مما أدى ذلك إلى الخلط والخبط عند بعض هؤلاء في العقائد وفي الأحكام، بل وفي المواقف وفي قضايا الأمة الكبرى، وفي التصرفات الطائشة التي تحدث من بعضهم، وفي صدور الأحكام المتعجلة ونحو ذلك من المظاهر التي