فمن الأحداث التي أنا أذكرها أحداث فعلاً فيها عبر: فتنة دخول الحرم، ودخول الحرم في الحقيقة فتنة عجيبة أنا عايشت هذه الحادثة وعايشها كثيرون ممن هم في سني أو أقل أو أكثر بقليل، وفيها عبر وفيها دلالات وفيها دروس لو أنها عرضت نقية صافية على الشباب الذين أفسدوا بالغلو في هذا الوقت والتكفير والتفجير لما وقعوا فيها بإذن الله، فلو استفادوا من الدروس من تلك الفتنة لما وقعوا فيما وقعوا فيه.
والكلام فيها يطول، لكن أحب أن أشير إلى بعض الوقفات: أولاً: الذين ابتلوا بتلك الفتنة في بداية أمرهم قبل أن يخرجوا على المسلمات هم أناس من أجيالنا بعضهم زملاؤنا في الدراسة وبعضهم سبقونا بقليل وبعضهم بعدنا مباشرة، ذلك الجيل أنا أحكي عن معايشته، ذلك الجيل الذي وقعت فيه الحادثة بعض الناس كنا نعيش معهم في الكليات وفي العمل وفي دروس العلم عند المشايخ، فما الذي حدث؟ الذي حدث فيه عبرة، نسأل الله العافية، وألا يجعلنا شامتين، فيه العبرة والعظة، فأحداثهم تشبه الأحداث الأولى التي حدثت في عهد الصحابة في الفتنة الكبرى، فأول أمرهم نجد أن كثيراً منهم من خيار الشباب تديناً وحرصاً على العلم والتفافاً حول العلماء وحرصاً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحباً للخير.
لكن ربما دخلهم مجموعة من أهل الأهواء الله أعلم بحالهم، وقد يكونون بعدد أصابع اليد أو أقل أو أكثر استغلوا اندفاعهم وغيرتهم فبدءوا يشحنونهم الشحن السياسي المعروف ضد الأحداث وضد الولاة وضد المشايخ إلى آخره، وباسم الغيرة وباسم إنكار المنكرات بدءوا يموجون في مسألة إنكار المنكرات، ويعملون أشياء كثيرة صحيحة، وأشياء فيها نظر، وبدءوا يجادلون ويناقشون، وبدأت المسألة تظهر إلى مسألة الخلافات بين الشباب، ثم انتقلت إلى الخلافات عند العلماء الكبار، فصار العلماء والمشايخ الكبار وعلى رأسهم في ذلك الوقت الشيخ ابن حميد رحمه الله، والشيخ ابن باز وابن عثيمين وطبقة من المشايخ عنوا بالأمر وبدءوا يناقشون هؤلاء الشباب وخاصة الغلاة منهم، فرجع منهم إلى طريق المشايخ من رجع وبقي منهم من تعصب وتحزب وصاروا يعتبون على المشايخ أول الأمر، فهل انتهى الأمر إلى هذا الحد؟ ما هي إلا أشهر قليلة وعبوا تعبئة غير مرشدة وحسبنا الله ونعم الوكيل، فبدءوا يتكلمون في ذمم المشايخ وقالوا: المشايخ تعلقوا بالدنيا واشتروا بالرواتب والتهوا بالإقطاعات، وهو نفس الكلام الذي قاله الغوغائية في عثمان رضي الله عنه تماماً خطوة بخطوة، فبدأ العقلاء يتشاورون، وبدأ الناصحون لهم ينصحون حتى إني والله! أذكر أنه في المسجد الحرام بدأت مساجلات ومناظرات طويلة بينهم وبين بعض المعتدلين من طلاب العلم الناصحين المشفقين وكثير منهم أحياء يشهدون بما حدث، فاعتدل منهم من اعتدل وتراجع منهم من تراجع عن سب المشايخ، لكن بقي تعاطف مع هذه الاتجاه، وصاروا بين بين، هذا الاتجاه تعمق في أهله حتى توصل إلى تبني المواجهة مع العلماء ومع الولاة، فحصل من الدولة -وفقها الله- أنها أرادت أن تدرأ الفتنة، فسجنت بعضهم، لكن لا يزال المشايخ الكبار عندهم أمل وحسن ظن، فشفعوا لهم وأخرجوهم من السجون، فلما أخرجوهم -والحق يقال- تراجع منهم كثيرون واستفادوا من الدرس واستفادوا من التجربة، وعرفوا أن إنكار المنكرات لا يتم إلا بالتناصح بينهم وبين ولاتهم وأن ما يحدث من المشايخ إنما هي أخطاء غير مقصوده، وأنه لا يتم هذا إلا بالنصيحة التي أوجبها الله ووصى بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفوا أن الفتنة لا تؤدي إلى نتيجة وأن المعارضة أمر لا يمكن أن ينكر به المنكر ولا يقال به معروف فاعتدلوا.
وبدءوا يناقشون الآخرين، فتعصبت الفئة الغالية وبعض المغترين فيها فصارت كياناً معارضاً تماماً، فجرتهم العزلة عن العلماء وترك العلماء إلى الفتنة، وأنا حسب علمي ما من طائفة مهما كانت على الصلاح والاستقامة تنازل العلماء إلا وتبتلى بفتنة إلا وتصاب بفتنة أقولها وأنا جاد، هذا حد علمي ما أعرف طائفة من شباب الأمة صار بينهم وبين العلماء شيء من الخصام ثم نابذوا علماءهم إلا ويصابون ويعاقبون بفتنة، وارجعوا إلى التاريخ، فمن ذلك: الفتنة على عثمان فتنة الخوارج فتنة أهل حروراء فتنة ابن الأشعث فتن بالعشرات، وكلما ظهرت طائفة تعتزل عن العلماء وتستهين بهم تبتلى ببلوى تكون موطن عبرة.
هؤلاء لما تجمعوا وتكتلوا دخلهم أهل الأهواء وزينوا لهم أعمالاً عجيبة، الله يعلم ما الذي حدث، لكن فيها أشياء نعرف عنها، وبعض من نشط معهم نشاطاً عجيباً وكنا نعرفه نشط في تحويلهم إلى الحرم، وتوهيمهم أن المهدي موجود وبيعتهم لفلان المهدي، واسمه محمد بن عبد الله القحطاني، فقالوا: كيف يصير قحطانياً؟ لأنهم طلاب حديث، فصنع لهم بحيلة صكاً على أنه قرشي هاشمي وإنما هو قحطاني بالحلف من حلفاء قحطان، فبايعوه فوقعت الفتنة! ثم هندس لهم ذلك