وبرصيص العابد قتله جهله، مع أنه كان يعبد الله جل وعلا ليل نهار، ولا يفتر لسانه أبداً عن الذكر، وتتفطر قدماه وهو قائم لله جل في علاه، فهو يصوم النهار، ويقوم الليل، ويتصدق بما معه من المال، ومع ذلك قتله جهله، قتل بنتاً بعد أن زنى بها ثم قتل، وسبب ذلك: أنه جاءه بعض أهل المدينة وقالوا: هذه أختنا أمانة عندك حتى نسافر ونرجع، فجعلها في مكان أسفل منه، وهو فوقها، فينزل لها بالطعام والشراب، وهي تخرج لتأخذه، فجاءه الشيطان وقال له: لا تتركها هكذا، تطعمها وتسقيها ولا ترى أحداً، والشيطان ثقيل في الشر، ولا يقوى إلا على الجهلاء، قال ابن عباس: عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
فقال له: انزل فضع الطعام على باب الغرفة ولا تدخل الغرفة، ثم جاءه مرة أخرى فقال له: لم لا تسأل عنها، وتسمع أخبارها، وتسألها هل تصلي أم لا؟ وهل تتعبد أم لا تتعبد؟ انظروا كيف يستدرجه الشيطان بسبب جهله، فيدق الباب فيسمع صوتها فيسألها ثم ينصرف إلى مكانه يتعبد لله جل في علاه، فيأتيه الشيطان فيقول: لو رأيتها هل هي تأكل أم لا تأكل؟ وهل تتعبد أم لا تتعبد؟ ففتح الباب فنظر إليها، ثم رجع ثم استدرجه الشيطان أن يجلس معها ويعلمها، فلما جالسها مرة ومرتين دخل الشيطان بينهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا وثالثهما الشيطان)، فزنى بها وهو متعبد، وهو زاهد، وهو يسجد لله، وهو يقيم الليل، وهو يصوم النهار! ولما جامعها أصبحت حبلى بالزنا، فجاء الشيطان يقول: هي حبلى من الزنا، ولو علم الناس لقتلوك، كيف والناس يقدمونك؟ كيف والناس يعظمونك؟ أنت الزاهد! أنت العابد! أنت برصيص، فقتلها، فلما قتلها جاءه الشيطان فقال: إخوتها سيسألون عنها، فلا بد أن تدفنها في مكان بعيد، فأخذها فبقر بطنها ودفنها هي وطفلها في مكان بعيد، فجاء إخوتها يسألون عنها، فقال: أختكم قد ماتت، فصدقوه لأنه عابد زاهد، لكنه جاهل قتله جهله.
فجاء الشيطان الذي استدرجه بجهله وجعله يقتلها إلى إخوتها فأرى كل واحد من الإخوة الثلاثة رؤيا ما فعل الرجل بأختهم، وأنه قتلها في المكان الفلاني، فاستيقظوا جميعاً في الصباح، وكل منهم يقول: رأيت رؤيا كذا، فاتفقت الرؤيا على أن البنت مقتولة في مكان كذا، فذهبوا إليه فأخرجوا البنت مع الجنين الذي كانت حبلى به، فذهبوا إليه فصلبوه، وأرادوا قتله فأمهلوه، فلما أمهلوه جاءه الشيطان وقال: أنا الذي فعلت بك هكذا، أنا الذي أتيت بهذه المرأة، وأنا الذي استدرجتك لتزني بها فزنيت بها، وأنا الذي جعلت عندك العزيمة لقتلها ودفنها، وأنا الذي جعلتهم يفعلون بك هكذا، ولو سجدت لي لأنقذتك منهم، فسجد له فكفر بذلك وقتلوه، فمات كافراً، ولو مات على هذه المعصية لكان رجمه كفارة له، وهي كبيرة بين حسناته الكثيرة، ويوم القيامة توزن الحسنات والسيئات، لكن أبى الشيطان إلا أن يكفره؛ لأنه وراءه بالمرصاد، وأبى الله جل وعلا أن يوفق مثل هذا الذي كان يتعبد لله بجهل ولا يتعلم، وكانت هذه النهاية الوخيمة والعياذ بالله.