الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة.
أيها الأحبة إذا تقرر ما سبق علمنا وجوب الإنصاف والعدل في الحكم على الفرد والمجتمع، والحاكم والمحكوم، والقريب والبعيد، وهذا يحتاج إلى شرط مهم، وهو: التجرد والسلامة من الهوى، يقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135] فالهوى مرض يجعل صاحبه يرى الصحيح سقيماً والعليل سليماً؛ ولهذا حذر الله منه، وأوصى نبيه داود بالحذر منه فقال جل وعلا: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26].
وحينما يبتلى المرء بداء الهوى، والميل والتجافي والمحاباة، فلن يعرف إلا ما يهوى، ولن يحب إلا ما يهوى، ولن يرى إلا ما يهوى، ولن يعتد إلا بمن يهوى، ولن يسمع إلا لمن يهوى، حتى يعميه الهوى ويصمه، وآية ذلك الإعراض عن الحق؛ فترى صاحب الهوى مائلاً إلى قول من اتبعه، معرضاً عن الدليل من كلام الله وكلام رسوله، وصدق الله جل وعلا حيث قال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] وقال سبحانه: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150].
والعجب كل العجب أن ترى صاحب الهوى يستدل بأهل الأهواء أمثاله، أو يستدل بمن تابعه على ميله وهواه، فإذا علمت أيها المسلم أن الحق لا يستدل عليه بإقبال الطغام وإدبارهم عنه، وإنما يستدل على الحق بموافقة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن من المعلوم أن مجرد نفور النافرين أو محبة الموافقين لا تدل على صحة قول ولا فسادة، إلا إذا كان ذلك بهدي من الله، بل الاستدلال بذلك استدلال باتباع الهوى بغير هدى من الله، فإن اتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، ورد القول والفعل الذي يبغضه، بلا هدى من الله.
وقال ابن تيمية أيضاً: وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين، أن الذي يرضى له ويغضب له أنه هو السنة وأنه الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، ولم يكن قصده أن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه أو طائفته، أو الرياء، أو ليعظم ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا، فذلك لا يكون لله ولم يكن مجاهداً في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة، هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة.
وبهذا يتبين أن التجرد في القول والعمل وسلامة المقصد أصل مهم في تقويم الرجال والمجتمعات والهيئات والذوات، حتى لو كان رأي الإنسان صحيحاً لكنه لم يقصد به وجه الله تعالى، ثم النصح للمسلمين، فإن عمله مردود غير مقبول، وهو مأزور غير مأجور، إذا لم يتجاوز عنه ربه قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] وقال شيخ الإسلام فيما معناه: حتى أن الرد على أهل البدع إذا لم يكن لأجل عبادة الله وإخضاع الناس لطاعة الله، وإنما كان الرد لسلاطة اللسان، أو للانتقام، أو لبيان البراعة وقوة الحجة، فإن هذا لا يكون في موازين قائله، إذ شرط كل عمل أن يقصد به وجه الله جل وعلا.
إن الهوى وعدم التجرد لله ورسوله، سبب الفساد في الأرض وباب حبوط العمل، حتى ولو كان ظاهره صواباً لفوات مقصده وهو صلاح النية، بل غاية ما في هذا أن يجعل الحق تابعاً للهوى، وهذا -وايم الله- الشر كل الشر والفساد كل الفساد، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71] فالعلم والعدل أصل كل خير، والظلم والجهل أصل كل شر، والله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم، قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15] فعلى المسلم أن يتقي الله ويخشاه، وأن يراقبه وأن يشعر بمعية الله له، وأن يوقن بأن الله عز وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم عليه أن يفتش في قلبه وأن يطهره من جميع آثار الهوى قبل أن يبدأ في وضع الناس ووزنهم بمقاييس الهوى، وقبل أن يبدأ في التعديل والجرح في الذوات والهيئات، لكي يكون متزن الرأي منصفاً بعيداً عن الجور والظلم المذموم شرعاً.
وقد قال الإمام الفذ ابن ناصر الدين الدمشقي قال: هيهات هيهات إن في مجال الكلام في الرجال عقبات، مرتقيها على خطر، ومرتقيها هوىً لا منجى له من الإثم والوزر، فلو حاسب نفسه الرامي أخاه ما السبب الذي هاج ذلك، لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك، وقديماً كان سلفنا الكرام رضوان الله عليهم يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه.