معاشر المؤمنين ربما كان الجور في الحكم وفوت العدل ووضوح الميل، بسبب التقليد والتبعية والمحاكاة، وهذا مرض أخبث من الذي قبله، إذ فيه تعطيل آلات العلم وتقديم الآراء والأهواء على الحجج الواضحات والبراهين الساطعات، ولا تعجب يوم أن ترى كثيراً من الناس يرى رأياً أو يقول قولاً لأن فلاناً قاله أو رآه، وأعظم من هذا تعصبه له وإصراره، ألا يفكر بعقله وألا يعمل عقله في قول من قلده وحاكاه، وقد يكون لدى المقلد عقل لا بأس به لو أعمله وتدبر به ونظر ببصيرته لتبين له خطأ من اتبعه، وتبين له خلاف ما ذهب إليه ورآه من التقليد، ناهيك عما فيه من تقديم عقول الرجال وآرائهم على العدل الذي شرعه الله ورسوله.
وأدهى من هذا وأمر، أن تجد بعض الجائرين في القول والرأي والحكم والنظر إذا دعوته للمناقشة أو للمناظرة، أو إذا دعوته لمناقشة ومناظرة قائده وسيده الذي علمه هذا القول، جبن ورجع القهقرى وعاد خائفاً وقد امتقع لونه، ثم بعد ذلك يقول: أويعقل أن أناقش فلاناً؟! أويعقل أن أتكلم مع فلان؟! وهذا دليل الضلال إذ أن صاحب الحق والدليل لا يتورع عن طلب الحق، فإن كان على ضلالة تبين خطأ نفسه وسلك الحق، وإن كان الذي يقابله على الضلال والخطأ أقام له الحجة وأبان له المحجة، ثم دعاه إلى ترك ما ذهب إليه بهواه وأمره باتباعه.
والعجب أيها الأحبة أن من الناس من إذا ناقشته في رأي أو في قول قال لك من يقلد ويتبع: سبحان الله أيشك في فلان؟! أيشك في علان؟! إن المناظر لا يشكك ولا يسيء الظن ولكن يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:111] {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] ائتوني بأثارة من علم أو كتاب أو حجة أو بينة، ولو رد عليهم المناظر بقوله: وماذا يضير فلان لو حاورته وناظرته، فإن كان على صواب زادني صواباً، وإن كان على ضلال بسطت له من لآلئ الحجة ما يضيء له المحجة، ولكن قل أن ترى شجاعاً ينبذ التقليد والمتابعة.
إن الجبن ليس في الخوف من الإقدام في المعارك، بل إن شجعاناً على الإقدام في المعارك تراهم جبناء لا يقدمون على السؤال وعلى البحث والمناظرة وإقامة الحجة، ولكن قل أن ترى شجاعاً ينبذ التقليد والمتابعة، ويسأل ويناقش ويستفسر بصريح الخطاب والعبارة عن الغاية والوسيلة والنهاية، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر].
وقال سفيان بن عيينة: [اضطجع ربيعة مقنعاً رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند قادتهم كالصبيان في حجور أمهاتهم ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم به ائتمروا].
وقال أحمد بن حنبل: [من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال -وقال أيضاً- لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا] وهذا واضح، إذ أن من أصر على التبعية والتقليد والمتابعة بغير سؤال أو جواب، أو طلب للدليل كالذي يقول: إني أتبع معصوماً لا يزل.
ومن استنكف أو انزعج أو بدا قلقاً يوم أن طلب منه الحوار والمناظرة لمن قلده واتبع هواه فكأنه يقول: اتبعه بلا دليل، وإن من الثابت أن صاحب الدليل لا يتورع عن بيان ما استند إليه.
هذا هو المنهج الذي سار عليه أئمة الإسلام وعلماؤه الكرام بصفائه ونقائه، والعجيب كل العجب أنه مع وضوح هذه المسألة وتواترها عن علماء الأمة إلا أنك ترى طائفة ليست هينة تعاني من داء التقليد والمتابعة على التخليط في أمور بعضها جلي، وبعضها خفي، وبعضها واضح، وأكثرها غامض، وفي هذا يقول الغزالي رحمه الله: وهذه عادة ضعفاء العقول يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق.
والعاقل يقتدي بسيد العقلاء، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: [لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله].
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من المتجردين لمرضاته، وفي الحديث الذي يروى: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) لهذا الموضوع بقية نبسطها في الجمعة القادمة.
أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين، وأن يبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم اجمع شملنا وحكامنا ودعاتنا وعلماءنا، ولا تجعل فينا دخيلاً ولا عميلاً ولا فاجراً يريد بنا سوءاً، اللهم من أراد بهذا الجمع فرقة، وأراد بهذه الطمأنينة فزعاً، وأراد بهذا الأمن خوفاً، اللهم افضحه على رءوس الخلائق، وأرنا فيه عجائب قدرتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم سخر لنا ولعلمائنا ووالدينا وحكامنا ودعاتنا ملائكة السماء برحمتك وجنود الأرضين بقدرتك، واجعل اللهم ذلك في طاعتك واتباع كتابك وسنة نبيك، وباباً إلى الخضوع والاهتداء بهديك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم اهزم النصارى، اللهم اهزم الكفار والمشركين والشيوعيين والوثنيين، وأقم علم الإسلام، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والزيغ والعناد، اللهم فرج هم المهمومين، اللهم فرج هم المهمومين في السجون، ونفس كرب المكروبين في الزنازين، وفك أسر المأسورين في الحبوس يا حي يا قيوم، اللهم فرج لهم، اللهم فرج لهم، اللهم فرج لهم، اللهم إن أنينهم لا يخفى عليك، وصرخاتهم لا تعزب عن علمك، اللهم فرج لهم ما هم فيه، واجعل العاقبة لهم يا رب العالمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان ميتاً فاجمعنا اللهم به في جنتك، وجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، ربنا لا تدع لنا في هذا المقام الشريف ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا مدمناً للمخدرات إلا عافيته منها وشفيته منها، وبغضتها إلى نفسه يا رب العالمين، لنا ولأحبابنا ولجميع إخواننا المسلمين.
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.