الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، فسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: ليهلك من هلك عن بينه ويحيا من حي عن بينه وإن الله لسميع عليم، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً.
أما بعد: عباد الله: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
روى أبو نعيم في الحلية عن كميل بن زياد قال: أخذ علي رضي الله عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر جعل يتنفس، ثم قال: يا كميل بن زياد! القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، ومحبة العلم دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، آه آه، إن هاهنا علماً -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبت له حملة، بل أصبته لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً باللذات، سلس القياد للشهوات، أو مغري بجمع الأموال والادخار، ليس من دعاة الدين، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بك لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه -لكي لا تبطل حجج الله وبيناته- أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته، حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك هم خلفاء الله في أرضه، ودعاته إلى دينه، هاه هاه شوقاً إلى أولئك، وأستغفر الله لي ولك، إن شئت فقم.
هذا الحديث الموقوف على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما قال الخطيب البغدادي من أحسن الأحاديث معنى، وهو من كلام علي رضي الله عنه، وهو أول من أسلم من الفتيان، أسلم وله ثماني سنين، وتربى في بيت النبوة، وزوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيدة نساء الأمة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، كان العلم يتفجر من جوانبه، وكان عمر على جلالته في العلم يسأله، وكان يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن.
فهذا من كلامه رضي الله عنه.
يقول كميل بن زياد: أخذ علي رضي الله عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر.
أي: صار في الصحراء.
ثم قال: يا كميل بن زياد! القلوب أوعية فخيرها أوعاها.
أي: أن الأوعية إذا أودعتها شيئاً حفظته، فهناك أوعية تملأ بالخير، وهناك أوعية تملأ بالشر: وكل إناء بالذي فيه ينضح.
فيقول: القلوب أوعية فخيرها أوعاها.
أي: أنصحها وأعقلها وأحفظها للحق.
ثم قال: احفظ عني ما أقول لك.
وهذا يدل على أهمية الحفظ لطالب العلم، ما قال: ادرس، ولا قال: افهم، ولكن قال: احفظ عني ما أقول لك.