قال رضي الله عنه: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق.
فهو قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: هو الكامل الذي قد تعلم العلم وعمل به وعلمه، فهذا العالم الرباني نسبة إلى الرب عز وجل، كما تقول: لحياني وجبهاني عظيم اللحية أو عظيم الجبهة.
وقيل: نسبة إلى التربية، فالعلماء الربانيون هم الذين يعلمون الناس بصغار العلم قبل كباره، والعلماء الربانيون هم خواص العلماء، وهم الذين وصلوا إلى الذروة في العلم والعمل والتعليم، كما قال عز وجل: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة:63]، فالأحبار هم العلماء، والربانيون هم خواص العلماء.
القسم الثاني: متعلم على سبيل نجاة.
حتى يكون المتعلم على سبيل نجاة وليس على سبيل هلكة فينبغي له ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يتعلم العلم النافع، وهو علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين لا يتعلم علم الكلام أو المنطق أو الفلسفة ويظن أنه على سبيل نجاة، بل ينبغي أن يتعلم العلم النافع، علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم.
الأمر الثاني: أن يبتغي بتعلمه وجه الله عز وجل؛ لما ورد في الحديث: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لن يجد عرف الجنة يوم القيامة).
فمن تعلم العلم النافع علم الكتاب والسنة ولم يرد بذلك الآخرة، ولم يرد بذلك وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا، يريد الوجاهة في الدنيا أو يريد منصباً أو مالاً لن يجد رائحة الجنة يوم القيامة.
الأمر الثالث حتى يكون المتعلم على سبيل نجاة وليس على سبيل هلكة: أن يعمل بعلمه، كما قال بعض السلف: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
وقال بعضهم: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به.
قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
وقال بعض السلف: من عمل بما علم أورثه الله عز وجل علماً جديداً.
إذاً: فالعبد إذا تعلم مسألة من مسائل الدين وعمل بها؛ فإن الله عز وجل يعلمه مسألة أخرى.
القسم الثالث: وهمج رعاع، والهمج: جمع همجة وهو الذباب الذي يقف على وجوه الماشية.
قوله: رعاع.
أي: كثير منتشر، وهؤلاء هم الغافلون عن العلم وطلبه، ليسوا من العلماء، وليسوا من طلاب العلم، رضوا بالدرجة الخسيسة، ورضوا بالحضيض، ورضوا بالجهل فهؤلاء هم حطب كل فتنة، وهم كثير لا كثرهم الله عز وجل.
فقوله: وهمج رعاع أتباع كل ناعق.
شبههم بالأنعام السائمة؛ لأنه وصف الذي يدعوهم بالناعق لا يفرقون بين الدعوات؛ ليس عندهم نور العلم الذي يفرقون به بين الدعوات؛ فإن دعاهم أحد إلى سنة أجابوا، وإن دعاهم أحد إلى بدعة أجابوا، ولذلك كانوا حطب كل فتنة؛ لأنهم ليس عندهم علم يميزون به بين الدعوات، ويفرقون به بين الهدى والضلال، وبين البدعة والسنة، وبين الحق والباطل.
ثم قال: يميلون مع كل ريح.
شبه قلوبهم الضعيفة الخالية من العلم النافع بالغصن الأخضر، الذي إذا أتته ريح من جهة الشمال مال معها، وإذا أتته ريح من جهة الشرق مال معها، فليس في قلوبهم علم نافع، والذي يثبت هو الذي يقف على الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68]، فهؤلاء ليسوا على بصيرة، وليسوا على علم نافع، ولذلك يميلون مع كل ريح.
ثم بين سبب ذلك فقال: لم يستضيئوا بنور العلم.
أي: ليس في قلوبهم نور العلم، قال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، فالمؤمن العالم على نور وعلى بصيرة.
وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
فالعلم النافع نور يفرق به العبد بين الهدى والضلال، وبين البدعة والسنة.
فهؤلاء ليسوا من أهل العلم، وليس نور العلم في قلوبهم، وكذلك لم يلجئوا إلى عالم مجتهد أو حتى متبع يسيرون بأوامره، ويهتدون بهديه على بصيرة.
فالعبد إما أن يكون مبصراً بنفسه يرى الطريق ويرى العقبات ويرى المنحنيات، أو يكون فاقداً للبصر فيمسك بيد بصير، أما