ثم قال رضي الله عنه: اللهم بك لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة لكي لا تبطل حجج الله، أولئك الأقلون عدداً الأعظمون عند الله قدراً، يدفع الله بهم عن حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى.
فبعد أن وصف علماء السوء وصف الدعاة الربانيين الذين هيأهم الله لحمل هذه الدعوة وجعلهم أمناء على دينه وعلى شرعه يقيمون الحجة على عباد الله، فقال: اللهم بك لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه.
وقد تمسك الشيعة بهذا الخبر فقالوا: لابد أن يكون هناك إمام سواء كان ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً، وقالوا: إن من هؤلاء العلماء إمامهم الذي دخل في السرداب، فكيف يكون هذا الإمام المعدوم الذي ليس له وجود حجة، فهم يقولون: إنه من الذين يقيمون الحجة على العباد، مع أنهم يعتقدون بأنه دخل في السرداب منذ أكثر من ألف سنة وهم ينتظرون خروجه، وكلما دعوا يقولون: عجل الله مخرجه أو فرجه.
فالحاصل: أن هذا الحديث يدل على أنه لا بد أن يكون هناك أناس يقيمون الحجة على عباد الله، ولا يمكن أن يأتي على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما أتى على اليهود والنصارى من تبديل الشرائع، بل من رحمة الله عز وجل بأمة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل حفظ الكتاب، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فتكفل سبحانه بحفظ الكتاب، وقال عن الكتب السابقة: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44]، فوكل حفظ هذه الكتب إلى الناس فضاعت، أما القرآن فقد تكفل الله عز وجل بحفظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن طائفة من أمته صلى الله عليه وسلم لا تزال ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، ففي البخاري وغيره: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
وأمر الله: الريح التي تأتي من جهة الشمال فتأخذ المؤمنين من تحت آباطهم، فتقبض كل روح مؤمنة، ثم تقوم الساعة على شرار الخلق.
فهذا الخبر يدلنا على أن هذه الأمة لا بد أن يبقى فيها من يقيم الحجة.
قال رضي الله عنه: أولئك الأقلون عدداً، يعني: لا يشترط أن يكون عددهم كثيراً، ولا أن يكونوا السواد الأعظم من الناس، بل إنهم -كما قال رضي الله عنه- الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، فهؤلاء لا يفارقون الساحة ولا الدنيا حتى يعلموا من يشبههم في الخير، ومن قلبه يصلح للخير، ومن همته تصلح لحمل راية سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم يقول رضي الله عنه: هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فرأوا الدنيا وزوالها وفناءها وعلموا أنها ظل زائل، وعرض حائل، وأن الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون، فسعوا للآخرة وكانت الآخرة هي أكبر همهم.
فهجم بهم العلم على حقيقة الأمر، واستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون.
فهؤلاء استلانوا هذه الطريق التي استوعرها المترفون؛ لأنه طريق الدعوة، وطريق البذل والتضحية والجهاد لرفع راية الله عز وجل، فالإنسان عندما يسلك طريق الله عز وجل لا يظن بأنه سوف يسلك طريقاً مفروشاً بالورود، وأنه سيجد الأمور مسهلة حتى يصل إلى جنة الله عز وجل، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).
فمهما وجد الإنسان في الطريق ما تكرهه النفوس ويشق على القلوب فليتأكد أنه في طريق الجنة، ومهما وجد الأمور توافق الهوى والشهوات فليعلم أنه في منزلق خطير، وأن آخر ذلك حفرة النار -والعياذ بالله-.
فأهل طريق الإيمان استلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلين؛ لأن الجاهلين يرون أن المتعة هي الشهوات والمال والجاه والشهرة، وهؤلاء متعتهم في قلوبهم وجنتهم في صدورهم، فمتعتهم في البذل في طريق الله عز وجل وفي قيام الليل وصيام النهار مهما شق ذلك على النفوس، ولا شك أن سيدهم وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم حتى تتورم ساقاه، وتتفطر قدماه، فيقال: (أتفعل ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً).
وكان صلى الله عليه وسلم يربط الحجر على بطنه من الجوع كما في قصة الحفر في الخندق.
وكان يعمل مع الصحابة ويحمل التراب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.