الآفة الثانية: فضول النظر.
فقد قال الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:30 - 31].
فالله عز وجل أمر بغض البصر وحفظ الفرج؛ لأن غض البصر وسيلة إلى حفظ الفرج، كما قال بعضهم: ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف القلب يرسل العينين رسولاً، فما ألفت العينان ألفه القلب.
(سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟ فقال: اصرف بصرك)، ونظر الفجأة أن يقع نظر المسلم على ما يحرم النظر إليه، وهذه النظرة لا يحاسب عليها؛ لأنه لا نية له فيها، ولكن الواجب عليه أن يصرف بصره، وألا يتبع النظرة النظرة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة: فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واللسان يزني وزناه الكلام، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه).
فسمى النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق البصر زنا العينين؛ تنفيراً من هذه المعصية.
لإطلاق البصر آفات كثيرة من هذه الآفات: أنها مخالفة لأمر الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، وما استجلب العبد نفعاً في الدنيا والآخرة بمثل امتثال أوامر الله عز وجل، ولا استجلب ضرراً ولا خطراً بمثل مخالفة أوامر الله عز وجل، فغض البصر استجابة لأمر الله عز وجل.
من آفات إطلاق البصر كذلك: أن العبد إذا أطلق بصره انطفأت بصيرته، وفقد نور البصيرة؛ ولذلك قال الله عز وجل بعد آيات غض البصر: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، فالإنسان إذا أطلق بصره أظلم قلبه، وإذا أظلم القلب أقبلت عليه سحائب الشر والبلاء من كل جانب، فما شئت من بدعة وضلالة واتباع هوى واجتناب هدى.
أيضاً من آفات فضول النظر: أن العبد إذا أطلق بصره فإنه يسمح للسهم المسموم أن يدخل إلى قلبه، كما ورد في المسند: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه)، وإذا دخل هذا السهم المسموم فإن الشيطان يدخل خلف السهم أسرع من دخول الهواء إلى المكان الخالي؛ من أجل أن يزين صورة المنظور إليه، ومن أجل أن يجعله صنماً يعكف عليه القلب، ثم يوقد نار الشهوة، ثم يحرك الجوارح بعد ذلك إلى المعصية: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على خطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر كذلك الناظر يرمي بسهام غرضها قلبه: يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب وباعث الطرف يرتاد الشفاء له توقّه إنه يأتيك بالعطب وإطلاق البصر يورث الحسرات والزفرات، فيرى ما لا يقدر عليه ولا يصبر عليه، كما قال بعضهم: وكنت متى أطلقت طرفك يوماً رائداً لقلبك أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر والنظرة تجرح القلب جرحاً، وتستلزم أن يعيد النظرة، ولا يمنع هذا الجرح القلب من أن يعيد النظرة مرة ثانية فيزداد القلب جرحاً على جرح، كما قال بعضهم: ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح وتظن ذاك دواء جرحك وهو في التحقيق تجريح على تجريح فقتلت قلبك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح وغض البصر يورث الفراسة وإطلاق نور البصيرة، وإطلاق البصر يفقد الفراسة كما قال شاه بن شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره، واجتنب الحرام، لا تخطئ له فراسة، وكان شاه بن شجاع هذا لا تخطئ له فراسة.
فإطلاق البصر يفقد العبد الفراسة، وغض البصر يجعل للعبد الفراسة.
أيضاً: إطلاق البصر يوقع العبد في الداء الذي هو بلا عوض، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: العشق داء بلا عوض.
فهو الكأس الذي من شرب منه أصيب بهذا الداء الذي لا يؤجر في الصبر عليه، ويعيش أشقى الناس، كما قال بعضهم: وما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذا