آثار فضول الكلام

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أما بعد: فقد تكلمنا بحمد الله تعالى في الموعظة السابقة عن علامات صحة القلب، ونحن نحذر في هذه الموعظة من آفتين خطيرتين وهما: فضول الكلام، وفضول النظر.

أما فضول الكلام فقد قال الله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].

وقال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم).

وحصائد الألسنة: أن من زرع بلسانه الحسنات حصد الكرامة، ومن زرع السيئات حصد الندامة.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده)، وقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).

وهذا كلام جامع من النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، فإن الكلام إذا كان خيراً يكون مأموراً بالنطق به، وإذا كان غير ذلك يكون مأموراً بالصمت عنه.

وقال عقبة بن عامر للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك)، فينبغي للعبد أن يضبط لسانه، كما قال بعضهم: يقولون: إن قلب المؤمن أمام لسانه، فإذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره بقلبه ثم أمضاه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا أراد أن يتكلم بكلام تكلم به ولم يتدبره بقلبه.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: والذي لا إله إلا هو ليس شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).

(ما بين لحييه) أي: لسانه، (وما بين رجليه) أي: فرجه.

وهذا يدل على أن أعظم فتنة افتتن بها العباد فتنة اللسان وفتنة الفرج.

كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)، فالعبد يتكلم بكلمة لا يتدبرها ولا يدري هل هي من الخير أم من الشر، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب.

قال العز بن عبد السلام: هي الكلمة عند السلطان الجائر، أي: التي يقر بها سلطاناً جائراً على جوره وظلمه.

فإن قلت: ما هذا التحذير من آفات اللسان؟ ف

صلى الله عليه وسلم بأن الكلام أربعة أقسام: منه ما هو خير محض، ومنه ما هو شر محض، ومنه ما هو فيه خير وفيه شر، ومنه ما ليس فيه خير ولا شر.

فإذا كان الكلام شراً محضاً فيجب الصمت عنه، وإذا كان فيه خير وفيه شر فيجب أيضاً الصمت عنه؛ لأن درء المفاسد أولى من جلب المنافع.

وإذا كان الكلام ليس فيه خير وليس فيه شر فالذي يتعين أيضاً الصمت عنه؛ لأن التكلم به نوع فضول وهذا من آفات اللسان.

فيبقى ربع الكلام -فقد سقط ثلاثة أرباعه- وهو ما فيه خير محض، والعبد كذلك في خطر من الرياء ومن تزكية النفس ومن العجب وغير ذلك.

فإذا كان ثلاثة أرباع الكلام ينبغي على العبد أن يصمت عنه، والربع الرابع فيه خطر، فهذا يدل على خطر اللسان.

وأخف آفات اللسان: الكلام فيما لا يعني وفضول الكلام هو: الزيادة على قدر الحاجة، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، أي: من حسن إسلامه ترك ما لا يعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة، فلا يحسن إسلام المرء حتى يترك ما لا يعنيه بحكم الشرع لا بحكم الهوى، مع أن ذلك من أخف آفات اللسان.

ولذلك قال بعض السلف: إن من علامة إعراض الله عن العبد وخذلانه له أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، يعني: تجده مشغولاً بالحكايات والقصص، ورواية أخبار الناس وأصحاب المال وأصحاب الجاه، وكلام لا يعود عليه بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة.

فهذه أخف آفات اللسان وهي الكلام فيما لا يعني، ومع ذلك من علامة إعراض الله عز وجل عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه.

وقالوا: من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق.

قال عطاء بن أبي رباح: كان من كان قبلكم يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أن تتكلم في حاجتك بقدر الحاجة، ألا تعلمون أن عليكم كراماً كاتبين: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18]، أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه.

فينبغي للعبد أن يملي ملائكة الله عز وجل ما يبيض به وجهه يوم القيامة، فحين يصبح يقول أذكار الصب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015