ومحالفة كآبة، وشدة تحرق، ولا يبرح زاريا على نعمة الله ولا يجد لها مزالا، ويكدر على نفسه ما به من النعمة، فلا يجد لها طعما، ولا يزال ساخطا على من لا يترضاه، ومتسخطا لما لن ينال فوقه، فهو منغص المعيشه، دائم السخطة، محروم الطلبة، لا بما قسم له يقنع، ولا على ما لم يقسم له يغلب، والمحسود يتقلب في فضل الله مباشرا للسرور، منتفعا به ممهلا فيه إلى مدة، ولا يقدر الناس لها على قطع وانتقاص. فإذا كان الحسد ينال من صاحبه هذا المنال، ويجر عليه هذا الوبال، دون أن يصل إلى غرضه السيء من أبطال تدبير الله وصرف نعمه عن خلقه فلم لا يريح نفسه من جهد بلا فائدة، وعناء بلا غناء، ويصنع ما يصنعه التاجر الكيس الذي لا يقدم على تجارة يتحقق فيها الخسارة، أو يفعل ما فعله ذلك الأعربي الفطن، الذي يروي لنا الأصمعي قصته اذ يقول: رأيت أعرابيا قد أتت له مائة وعشرون سنة، فقلت له: ما أطول عمرك! فقال: تركت الحسد فبقيت! ثم لماذا الحسد، كل ما يتكالب عليه الحساد، يؤول إلى زوال، ويصير إلى نفاد؟.
[لو فكر العاشق في منتهى … حسن الذي يسبيه لم يسبسه]
وإذا كان في هذه الحياة شيء يستحق أن يتحاسد الناس عليه، فهو ما أشار صلى الله عليه وسلم إليه إذ قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها".
على أن المراد بالحسد في الحديث هو التنافس أو الغبطة التي هى تمني مثل ما للنايس من نعمة، لا الحسد على بابه، وهو تمني زوال النعمة على الغير، أو أن المراد، أن الحسد إذا حسن في شيء ففي هذين، أي في أن تنفع المجتمع بأحد شيئين: وهما المال والعلم، وأي شيء أنفع من المال، الذي هو قوام الأعمال؟ ومن العلم الذي صلح عليه أمر الدنيا والدين، والذي لا يصلح عمل ولا عبادة بدونه، فكان- لذلك- أول ما نادى به هذا الدين، في أول آية نزلت من كتابه المبين؟ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} ولكن يجب أن لا يغتر الأغنياء أو العلماء، فلا عبرة بمجرد الغنى أو العلم، وإنما العبرة بالنفع في الغنى والعلم، وهو ما يصرح به صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إذ قال عن صاحب المال: (فسلطه على هلكته- إفنائه- في الحق) وإذ قال عن صاحب الحكمة- أي العلم-: (فهو يقضي بها ويعلمها).