في عروقهم، وإذا استغاثوا أغيثوا بهمسات إبليس في أذن البوليس، ليعطف عليهم بركلات، تزيحهم عن الطريق، وتلف بعضهم ببعض، ولا أنسى- ما حييت- ما لفت نظري بين هؤلاء بصفة خاصة من مشهد تلك الأم التعسة التي أحاط بها أربعة كزغب القطا، وقد بدوا- وهم عراة- كأنهم قطع من اللحم قد صبغت بلون أزرق، إذ ظهر أثر جمود الدم في شرايينهم، زرقة على أبدانهم، ولكن الذي لا أنساه أكثر من كل شيء- هو تلك الكلمة التي سمعتها من أحد المارة- وقد آني أحدق- شاود النظر، ذاهل اللب- في هذا المشهد المؤثر (المخجل) فقال لي- بكل وقاحة-: لا يهمك أمر هؤلاء، فليسوا غير تجار فجار، فكأنما طعنت في قلبي بخنجر مسموم، وما تمالكت أن قلت: هؤلاء أيضا تجار قد استولوا على أموالكم؟ ألا ما أربحها تجارة، وما أعلمكم بالتجار الحقيقيين الذين استغنوا على حسابكم، وسلبوكم خيرات بلادكم، أما كفاك ما يتمرغ فيه هؤلاء من تعاسة وبلاء، حتى تطعنهم هذه الطعنة النجلاء؟ لله درك من فيلسوف خطير!
أما صورة أولئك الطوافين والطوافات على المزابل والكناسات، وصناديق القمامات، فكانت آخر الصور تمثلا لخاطري، ومرورا بذاكرتي لأنها- لكثرة مما نشاهدها في عالم الحس- أصبحت مألوفة لنا، لا تثير عجبا، ولا تلفت نظرا.
أيها المسلم: هذه هي الحال السيئة التعسة الشاذة، التي تعيش عليها الآلاف بل الملايين من أبناء دينك ووطنك، فإن كان لك إيمان، فيجب أن تكون لك غيرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم- الذي آمنت به، يقول: "لا إيمان لمن لا غيرة له"، وإذا كنت تنام قرير العين، لأنك تتمتع بفراش وثير، وغطاء كثيف، ومسكن صحي نظيف، فاذكر أولئك البؤساء التعساء من إخوانك في الدين والوطن، الذين لا يذوقون للنوم طعما، لأنهم لا يتمتعون بما تتمتع به، وإنما تبيت سياط البرد تلهب أبدانهم الهزيلة العليلة، فإن كان لك إيمان، فاذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم- الذي آمنت به-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وإذا جعل الله ما توقد من نار، تذكرة بنار أشد منها، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} فإن هذا البرد الشديد يجب أن يذكرك ببرد أشد منه وهو الزمهرير الذي إذا استغاث أهل النار من النار،