كان يوم الأحد- السابع والعشرون من فبراير- وهو آخر أيام الشتاء- يوما عبوسا قمطريرا - اشتد برده، وهطل مطره، وتلبد غيمه، وتسمم جوه، كأن الشتاء الذي لم يبق له من عمره إلا هذا اليوم ثم يقضي نحبه ويلفظ آخر أنفاسه، أراد أن يجمع في مرحلته الأخيرة كل ما فاته في هذا العام من هجماته القاسية، وضرباته القاضية، حتى وجدتني مضطرا للبقاء في المنزل.
وأتاحت لي عزلتي وفراغي، أن أفكر في أشياء كثيرة- وليس الفراغ شرا كله- وقلت: ها أنا الآن في بيتى، مجتمع الشمل بأسرتي، وبين يدي موقد فحم ادفع به غائلة البرد الشديد، وأتقي مفعول الرطوبة المبيد، لا يمسني سوء، ولا ينالني مكروه، من هذه المعركة الدائرة رحاها خارج منزلي، بين الطبيعة، وبين من ساء حظه من أبنائها، فليت شعري، ما حال ذلك الكائن الحقير، الذي يسمونه الفقير؟ وسرعان ما مرت بذاكرتي صور مختلفه متلاحقه، وكان أول ما تمثل لي منها منظر حمالي سوق الخضر، وهم يتلقون ضربات المطر، بأجسام ضاوية، تخرقت عنها أسمال بالية، ومن فوقها السلال الكبيرة الملآى تكاد تعقرها، بحملونها ويسرعون بها إلى السوق على طريق تلبد فوقه الوحل الذي قلما ينجو الماشي عليه من الانزلاق، في مقابل أجز زهيد لا يكاد يسد رمق أطفالهم، الذين ينتظرون عودتهم بفارغ الصبر، قبل أن يهلكم الجوع، الذي لا يرحم.
ثم منظر أولئك الذين يفترشون الثرى، ويلتحفون السماء، دون وطاء ولا غطاء، ويبيتون للعناصر الهوجاء، تفرى جلودهم وتمزق جسومهم وتخدر أعصابهم وتجمد الدماء