استويت على ذؤابة المنارة العالية (بمسجد الأمة) وجلست قليلا على مقعد خشبي هناك ريثما أستجمع من القوة ما بدده صعود مائة وإحدى عشرة درجة، قبل أن أهتف بالكلمة الخالدة التي لم تستطع أربعة عشر قرنا، أن تمحوها من الوجود - وهي فرصة ثمينة تتاح لي كلما تأخر المؤذن الشاب، أو غاب- وما أكثر ما يتأخر الشبان عن مثل هذا الميدان- وكان الوقت قبيل الفجر، وكانت السماء من الصحو والصفاء بحيث تبدو- والنجوم الزهر تطرزها، وتوشى أديمها- كبساط أزرق، نثر عليه زهر أبيض، وكان العالم المادي بكل ما فيه، ما زال غاردا في نومه، بعد أن أجهده عمل يومه، فلا حركة، إلا حركة المد والجزر في البحر أو هد هدة النسمات المنتشية الحالمة، للأغصان اللدنة الناعمة، ثم سرحت بصري أمامي وفي كل ما حولي، فأحسست بنشوة زهو تختلج بها مشاعري، إذ رأيتني أعلو على الناس بجسمي، فذكرت بذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "يحشر المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقا"، ثم رأيتني أسمو على الناس بروحي، إذ ذكرت أول يوم هتف فيه مؤذن الرسول- من فوق هذه المئذنة، وفي مثل هذه الساعة، وفي مثل هذه الجاهلية الحالكة- بهذه الكلمة السامية: (الله أكبر)!
هذه القوة المعنوية، التي أخضعت لسلطانها- إذ ذاك- سلطان القوة المادية، وفتتت طاقة الشرك والوثنية، وشتتت جموع الظلم والإضطهاد، والإستغلال والإستعباد، هذه الكلمة التي لو اتخذها شعارا أبناء هذا العصر الذين جرفهم تيار