{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} والإسلام إنما جاء ليجعل للناس قلوبا تحس ومشاعر تتأثر، وأكفا تمتد بالإحسان، وأرجلا تسعى إلى الخير وإلى صالح بني الإنسان، جاء ليرهف الإحساس ويسمو بالمشاعر ويرقى بالوجدان، فتصبح الإنسانية كلها كما متصلا بل أسرة واحدة بل جسدا واحدا إذا شكا منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وقد بلغ الإسلام في ذلك شأوا بعيدا في عهوده الأولى وأنشأ مجتمعا فذا فريدا في التاريخ سادت فيه المعاني الإنسانية والروحية بصفة لم تكن معهودة- ولا متصورة وإذا دعا الإسلام المسلمين إلى أن يكونوا إخوة في الله، فإن المسلمين حققوا ذلك وزادوا عليه إذ آثروا على أنفسهم وتخلوا لبعضهم بعضا عن حظوظهم حتى أثنى عليهم القرآن بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وأصبح المسلم بشبع جاره من جوع ويجوع ويطعم أخاه المحروم، ويصوم ويؤثره بالماء ويهلكه الظمأ كما وقع في إحدى الغزوات، إذ بينما رجل يطوف بالماء إذ مر على جريح يكاد يقتله الظمأ فدنا منه ليسقيه فأشار إليه بأن يتركه ويسقي آخر بجانبه في مثل حاله، فذهب إليه ليسقيه فأشار هو الآخر إلى آخر بجانبه ليسقيه وهكذا يدفعه جريح إلى جريح حتى أتى إلى الأول فوجده قد هلك ثم الثاني كذلك ثم الثالث حتى هلكوا جميعا وبقي الماء لم يطعمه أحد.

إن هذا الإيثار بالنفس في ساعة العسرة وفي اللحظة الحاسمة من العمر لهو أبلغ معاني التضحية وأسماها:

"والجود بالنفس أقصى غاية الجود"

وهذا المثل الفريد في الإنسانية يذكرني بمثل فريد في الأنانية لأنه على نقيضه تماما.

كان ذلك والكون كما هو في هذه الأيام تسوده الروح المادية وتتحكم فيه

وتستبد به، كان ذلك عند مبعث المسيح عليه السلام: إذ مر أثناء سياحته على الكنز وبحانبه ثلاثة أشخاص موتى فقال: يا رب: ما خطب هذا الكنز وما خبر هؤلاء الأشخاص؟ فأوحى الله إليه: بأن هؤلاء الأشخاص بينما هم في طريقهم سائرون إذ عثروا على هذا الكنز فجلسوا ليتقاسموه ولكنهم قبل أن يقسموه اتفقوا على أن يبعثوا أحدهم ليئتي بغدائهم، فبقي اثنان وذهب الثالث ليأتي بالغداء فقال الإثنان المتخلفان إذا عاد صاحبنا قتلناه واقتسمنا الكنز بيننا شطرين وقال الثالث في نفسه: سأطلب من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015