ولعل هذا هو الذي دفع "الأب هنري لامانس" إلى القول بأن مكة إنما كانت جمهورية بالمعنى الكامل للجمهورية، وقد يكون لشخصية "قصي" الفذة تأثير في ذلك، إلا أن تنظيمات قريش لم تكن في واقع الأمر، إلا تنظيما قبليا في جوهره، وإن بدا في ظاهره تنظيما جمهوريا، لأن الزعيم لم يكن يحمل لقبًا معينا، فضلا عن أن هناك من الأدلة ما يشير إلى أن العشيرة إنما كانت تتمتع بحرية كاملة، ولا تخضع لسلطان غيرها في كثير من الأحايين، بل إن كثيرًا من الأفراد إنما كانوا يخرجون على رأي العشيرة نفسها، ومن النوع الأول عدم مشاركة بني زهرة لقريش في موقعة بدر، رغم موافقتها على القتال وخروجها إليه، بل إن بني عدي لم يخرجوا للقتال أصلا، ومن النوع الثاني خروج أبي لهب على رأي بني هاشم، وانضمامه إلى بقية بطون قريش في مقاطعتها لبني هاشم، وبقاء العباس على علاقاته الودية ببطون قريش، رغم تضامنه مع بني هاشم، هذا إلى أن العشيرة إنما كانت تخرج أحيانًا على مجلس القبيلة، ومثال ذلك اجتماع بني هاشم والمطلب على حماية المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- ومواجهة قريش1.
ويرى الدكتور طه حسين -يرحمه الله- أنه من العسير أن نحدد لمكة نظاما من نظم الحكم التي يعرفها الناس، فلم يكن ملك، ولم تكن جمهورية أرستقراطية بالمعنى المألوف لهذ العبارة، ولم تكن جمهورية ديمقراطية بالمعنى المألوف لهذه العبارة أيضًا، ولم يكن لها طاغية يدير أمورها على رغمها، وإنما كانت قبيلة عربية احتفظت بكثير من خصاص القبائل البادية، فهي منقسمة إلى أحياء وبطون وفصائل، والتنافس بين هذه جميعًا قد يشتد حينا ويلين آخر، ولكنه لا يصل إلى الخصومات الدامية، كما هو الحال في البادية وأمور الحكم، تجري كما تجري في البادية، وكل ما وصلت إليه قريش من التطور في شؤون الحكم هو أنها لم يكن لها سيد أو شيخ يرجع إليه فيما يشكل من الأمر، وإنما كان لها سادة أوشيوخ يلتئم منهم مجلس في المسجد الحرام، أو في دار الندوة2.