ولنختم الكتابَ بذكرِ فائدةٍ مهمّةٍ؛ وهي أنّ المعتزلة هل يَكفرون بمقالتهم هذه، أم لا؟
والجواب أنّ ظاهر الأحاديث يقضي بكفرهم، كما سبق. أمّا قاعدة العقل والشريعة العامّة في المعتزلة وغيرهم، أنّ مَن أراد بمقالته خيرًا، مِن تنزيه الله سبحانه عمّا لا يليق به في اعتقاده بحسب اجتهاده، أنّه لا يُكَفَّر، ولا يُفَسَّق. بل إِن خالَف الدليلَ في نفس الأمر، كان مخطئًا. ثمّ إِن لم يكن مأجورًا، لم يكن مأزورًا. وبذلك بشرط أن لا يخالِف قاطعًا من قواطع الشريعة، أو ظاهرًا جليًّا لا معارِض له. والأصل في ذلك قوله عليه السلام، "إِنما الأعمال بالنيّات". والاعتقادات من أعمال القلوب؛ فيُعتَبر فيها المقاصدُ والنيات.
وليست هذه المسألة وأشباهها من القواطع، وإِنما هي من الاعتقادات. وفرقٌ بين القطع والاعتقاد. ومن زعم أنّ هذه، ومسألة الحرفِ والصوتِ وأشباها، ممّا يُفرَّغ على الوحدانيّة والنبوّة وتجاذُبِية الشبَه والأدلّةِ، مِن القطعيّات، فقد وَهمِ. كيف، والشُّبَه فيها قد أعمت النظائرَ، وعمّت الباديَ والحاضرَ! والله سبحانه لم يُكلِّف عبادَه القطعَ بما لم يجعل لهم إِلى القطع به سبيلًا؛ إِذ ذلك تكليفٌ بالمحال، والثابت عند مَن أثبته جوازُه، ولا وقوعه. وذلك بخلاف إِثباتِ الصانعِ، ووحدانيّته، وقِدمِه، وجواز البعثة، وثبوت النبوّات؛ فإِنّ الأدلّة عليها قواطعُ. والتشكيكات على ذلك كالتشكيكات على العاديّات، كما سبق؛ فلا يؤُثر ولا يُسمَع.
وتحقيق هذا أنّ أحكام الشريعة إِمّا قطعيٌ، قام عليه دليلٌ قاطعٌ؛ أوظنّي، لم يقم عليه إِلاّ دليلٌ ظني؛ أو واسطةٌ بينهما، وهو ما قام عليه دليلٌ ارتَفع عن الظّنّي، ولم يَلحق بالقطعّي. فالأوّل كما ذكرناه من وجود الصانع، وقِدمه، ووحدانيّته، وإِثبات النبوّات. والثاني كالفروع العمَليّات، كمسائل الطهارات، والعبادات، والمعاملات، وما استندت إِليه من مسائل أصول الفقه الخاصّة به. وهذا القسم متفاوِتٌ في مراتب الظنون. فأدلّة أصول الفقه أعلى رتبةً من أدلّة الفقه. ثمّ كل منها يتفاوت في ذلك