علِمهم، واعتمادهم على مجرّد عقلهم، مع تسليمهم وتقريرهم أنّ مِن أحكام الشرع ما لا يُعلَم إِلاّ بتوقيف الشارع. وهذا تناقُضٌ. فهلا جعلوا هذا الأصلَ مِن التوقيفيّات، ووافقوا نصوصَ الكتاب والسنّة وإِجماعَ سلفِ الأمّة وخلَفِها! .

ولقد أخبرني الشقةُ عن بعض رؤساء الحنفيّة ببغداد، أنّه قال: "إِني لأخرُج من بيتي قدريًّا؛ ثمّ أعود إِليه سنّيًّا". فقيل له: "كيف ذلك؟ " قال: "أخرج على أني أفعل كذا وكذا، وأذهب إِلى كذا وكذا، وأرى أني متمكنٌ من ذلك قادرٌ. فيذهب النهار، ولم يتيسر لي من ذلك شيءٌ. فأرجع، وأنا أقول: لو قُدِّر، لكان".

قلتُ: فهذه أحاديث وآثارٌ، إِن لم تكن متواترةً تواترًا حقيقيًّا، فهي متواترةٌ تواترًا معنويًّا؛ كسخاء حاتمٍ، وشجاعة عليّ. وإِن لم تكن كذلك، فهي مستفيضةٌ، تلقّتها الأمّةُ بالقبول على تعاقب الأعصارِ، في سائر الأمصار، لم يُنقَل عن أحدٍ منهم لها إِنكارٌ. فإِذن، مستَند صحّتها إِمّا التواتر لمعلوم، أو الإِجماع المعصوم. فلينظر أمره لنفسه، وليُخلِص اعتقادًا يَلقَى فائدتَه في رمسِه، ولينظر أيهما أحقّ بالاتّباع: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون، والصحابة، والتابعون، وأئمّة الشرع الصالحون، والفضلاء المحقِّقون؛ أم واصل بن عطاءٍ، وعمرو بن عُبَيدٍ، وأبو الهذيل العلاّف، والشحّام، والإِسكافيّ، والجبّائي الذي يقول: "يُسمى اللهُ "مُحْبِلًا"؛ لأنّه لا يحبِل النساءَ إِلاّ هو"، و "لا يسمّى "حنانًا"؛ لأنّه مشتقٌ من الحنين"؛ وغير ذلك من مقالاتهم البائرة، المبنيّة على أصولهم الهائرة.

[مآخذ مسألة القدر]

وحيث انتهينا في مسأَلة القدَر إِلى هذا المقام بعد طويلٍ من الكلام، فلننبّه على مآخذها باختصارٍ؛ وهي ثلاثةٌ:

أحدها: أنهم ينكِرون تصرُّفَ الله التكوينيّ في أفعال خلقِه؛ ونحن نثبته. وقد سبق تقديره.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015