وربما كان مكروهُ الأمورِ إِلى ... محبوبها سببًا ما مِثله سببُ

وقد كان موسى عليه السلام مِن أُولي العزمِ مِن الأنبياءِ. ولَمَّا قال الله: {خذها ولا تخف}، لَفَّ كُمَّ مِدرَعَتِه على يده ليَتناولها بها؛ فقا له المَلِكُ: "أرأيتَ لو أَذِن اللهُ لِمَا تحذَر؛ أكانت كُمُّك تنفعك؟ "فقال: " لا؛ ولكني ضعيفٌ، ومِن ضَعفٍ خُلِقتُ".

فهذا السرِّ، شُرِع الاحتياطُ والحزمُ وتعاطي الأسبابِ؛ إِذ ليس كلّ أَحدٍ يَصبر قلبُه للتفويض؛ وإِنما يوجَد ذلك نادرًا. كإِبراهيم حين أُلقِي في النار، فعَرَ له جبريلُ في الهواء؛ فقا له: "ألك حاجةٌ؟ " فقال: "أمّا إِليك، فلا". فلا جرم اتَّخَذه اللهُ خليلًا.

ثمّ الناس بعد إِبراهيم على طبقاتٍ في التفويض والتوكُّل. فالذي يمنحه اللهُ عقلًا يَعكِسُ ما عليه الأكثرون؛ فيُفوِّض في أمور الدنيا غايةَ التفويضِ حتى لا يَهتَمّ لها أصلًا، اعتمادًا على أنّ ما قُدِّر منها واصلٌ؛ ويحتاط ويَدأَب في أمور الآخرة غايةَ الاحتياطِ والدأبِ، لا لاعتقاده أن اختياطه يزيده عمًا في عِلم الله، ولا أنّ تفريطه يُنقِصه عنه- إِذ قد وُجِد مَن عاش مؤمِنًا مجتهدًا إِلى آخر نفَسٍ، ثمّ مات كافرًا، كبرصيصا العابد، ومن عاش كافرًا إِلى آخر نفَسٍ، ثمّ آمَنَ، كاليهوديّ الذي عادَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والأعرابي الذي وَقَصته ناقُته عقيب إِسلامه، فقال النبيّ عليه السلام: "هذا مِنَّن عَمِل قليلًا وأُجِرَ كثيرًا"- بل لإِزالة اللائمة عن النفس؛ كما حُكِي عن عامر بن عبد قيسٍ أنّه قال: "لأُجهِدَنّ نفسى، فإِن سَلمَت، فذاك؛ وإِلاّ، فلا أَلومنّها على تقصيرٍ"، أو كلامًا هذا معناه. وكما قال الشاعر:

لأطلبنّ العُلى جَهدِي طِلابَ فتًى ... يَدوسُ بالعزم هامَ السبعةِ الشُهُبِ

فإِن أَنَلْ، فبسَعيي ما أَتَيتُ بِه ... بِدْعًا، وإِلاّ فقد أَعذَرتُ في الطَلَبِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015