والجواب عنه أنّ أدلّة مذهبِنا في القدر تقتضب محضَ التفويضِ والتسليمِ في أمور الدنيا والدين. لكنّ الشرع وَرَدَ بالحزم والاحتياط فيهما، وتعاطب الأسباب لهما؛ كقوله "اعمَلوا على مواقع القدر"؛ "اعمَلوا فكلُّ ميسر لما خُلق له"؛ "اعلم أنّ ما أَصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك"؛ وقوله في الناقة، "اعقِلها وتَوَكََل"؛ وظاهَرَ النبي عليه السلام يومَ أُحدٍ بين دِرعين؛ ونحوه كثيرٌ. وذلك كلّه إِمّا تنبيهٌ مِن الشارعِ على أنّ حظّ العبدِ مِن هذا الباب إِنما هو الاكتساب؛ أو على أنّ الأسباب والأكساب لا تُلغَى في نظر الشرعِ في هذا الباب ولا غيره؛ أو لأنّه عَلِم أنّ الإِنسان خُلِق مِن ضَعفٍ، فلا تَثُبت نفسُه للتسليم المحض، لخفاء سرَِ القدرِ الذي لا يدرِكه إِلاّ أولوا الألباب، وظهورِ أمرِ الوسائل والأسباب. فأَمَرَ بالجزم والاحتياط، ليكونوا مِن أمرِهم على طمأنينةٍ بالنسبة إِلى قواهم؛ وقدر الله من وراء ذلك. ولهذا نَرى كثيرًا من الناس يَسلَم مّن حيث فَرط وكثيرًا منهم يَهلِك من حيث احتاط؛ حتى قال الشاعر:
قد يَهلك الإِنسانُ مِن بابِ أَمنِه ... ويَنجو بإِذن اللهِ مِن حيث يَحذَرُ
وقال آخر:
إِذا كان غيرُ اللهِ للمرء عُدّةً ... أَتَته الرزايا مِن وجوهِ الفَوائد.
فقد جَرَّت الحنفاءُ حَتْفَ حُذيفة ... وكان يراها عدة للشدائدِ
والحنفاء فرسُ حُذَيفة بن بدرٍ، كان للمضائق، ينجو عليها. فلمّا هَرَب مِن قيس ابن زهيرٍ، ونَزَل على جَفْر الهَباءةِ، اقَتص بنو عبسٍ أَثَرَ الحَنفاءِ، حت وَقعوا عليه، فقتلوه. وقال الله سبحانه: {وعسى أن تكوهوا شيئًا وهو خير لكم}، الآية. وقال البحتريّ: