قوله، "الله أعدل وأرحم مِن أن يُعمِي عبدًا، ثمّ يقول له: "أَبصِر، وإِلاّ عذَّبتُك! " فكيف يُضِلّه، ثمّ يقول له: "اهتَدِ، وإِلاّ عذَّبتُكّ" قلنا: هذا أوّلًا قياسٌ لعَمَى البصرِ على عمى البصيرة؛ وهو من عمى البصيرة. فإِنّه فاسدُ الاعتبارِ، مع قوله تعالى: {يضل من يشاء}، {ويختار}.
وأمّا ثانيًا، فقد بَيّنّا أنّه لا تَنافي بين تَصرُّف التكليف والتكوين. والفَرق بين إِعماء البصر والبصيرة أنّ الله سبحانه أراد استدارجَهم من حيث لا يَعلمون، والمكرَ بهم من حيث لا يَشعُرون. فلذلك أَعمى بصائرهم، لخفاءِ عماهم عنهم؛ ولم يُعمِ أبصارَهم، لظهور عماهم، ولتَكُون حجَّةً عليهم؛ كما قال: {ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين}، وقال: {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء}، الآية. وقد سبق الجوابُ عن باقيها.
قلتُ: وقد خَطَر لى في هذا المقام نكتةُ القدرِ. وهو أنّ الله سبحانه حَكَم في الطائفتين في نفسِ الأمرِ بعلمِه. لأنّه لَمَّا خَلَقَهم مِن مادّتين، طيَبةٍ وخبيثةٍ، وطبيعتين، عاصيةٍ ومطيعةٍ، عَلِمَ ما سيكون منهم. {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}! فعَلِم أنّ هذه الطائفة لا يكون منها إِلاّ الخيرُ والطاعةُ ولو تُرِكَت على اختيارها، خالِقةً لأفعالها؛ وأنّ هذه الطائفة لا يكون منها إِلاّ الشرُّ والمعصيةُ، ولو تّرِكت على اختيارها، خالقةً لأفعالها؛ لما طَبَعَ عليه نفوسَ كلِّ واحدةٍ من الطائفتين، مِن اقتضاءِ الخير والشرّ، كهبوط الحجَر وتَصاعُد النارِ.
فلمّا استَوى في عِلمِه الأمران- أعني تركَ النفوسِ على اختيارِها، وخلقَه لأفعالها- وبنفوذ مشيئتِه واقتدارها، رَجَّح سبحانه أحدَ الأمرين، وإِن استَوَيا في التقديرين؛ لِمَا