الفسق والكفر، كقوله، {ويضل الله الظالمين}، وقوله، " {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}، وقوله، {وما يضل به إلا الفاسقين}، قلنا: بلى، قد نظرنا في ذلك؛ فما رأيناه منافيًا لمِا نقول نحن، ولا مُوافيًا لما تقول أنت. فإِنّا نعود معك إِلى الأوّل، ونقول: الفسق والكفر المتقدّمان على إضلاله إِيّاهم، مَن خَلَقَه فيهم؟ وتعود المسألة مِن أوّلها. والنزاع فيه.
ثمّ نقول: سَلَّمنا أنّ فِسقهم المتقدِّم خَلقٌ لهم. لكن ما وجه اقتضاءِ فسقِهم لإِضلالهم؟ أَعَلى جهة استراجهم، لتكمُل شبه العقوبة؟ أم على جهة العقوبة على فسقِهم؟ إِن كان الأوّل، فجَورٌ وَافَى الفِسق المتقدِّم ذلك؛ ولا فرق. وإِن كان الثانى، فلِم عاقبهم عليه بالإِضلال؟ وهلاّ عاقبهم بالإِهلاك والمصير إِلى النار، على ما هو القياس في العقبات! وكيف يَسُوغ في العقل أن يجعل عقوبةَ الزانى زِنًا مِثلَه، أو الشاربِ شربًا مِثلَ شُرِبه، أو اللائط لواطًا مِثل فِعله! .
ما هذا إِلاّ كما يُحكَى في النوادر أنّ بعض مغفَّلى القضاة كان إِذا حَضَرَ بين يديه زانٍ، أو نحوه، قَدَّم له صحنَ قطائفٍ بعسلٍ. ثم ّ قال له: "كُلْه جميعَه! وإِلاّ بعبعتُك أو جَعجَعتُك! " فإِن أَكَلَه، سَلم. وإِن بقي منه شيءٌ، أَركَبه القاضي حمارًا؛ ثمّ تَعَرّى القاضي، وكَشَف رأسَه، وسود وجهه بسخام قدر أو نحوه؛ ثم كشر عن أسنانه، وشَرَع عينيه في وجه ذلك المعاقَب. وقال له "بُعْ بُعْ"! أو "جَعْ جَعْ! " فتلك بعبَعتُه وجعجعتُه؛ وهي عقوبته. فهذا مَثَله سواءٌ بزِنا الشخصِ بامرأةٍ مرّةً، فيعاقبه اللهُ سبحانه بأن يُسلّم إِليه أولادَ الناسِ ذكورًا وإِناثًا، فيَستمتع بهم باقي عمرِه. هذه عقول القدريّة الصحيحة. ولكن عقولٌ نَفَذَ فيها قَدَرُ الله، ففسَدَت. ونفَقَت عقولُ المؤمنين في سُوق الملكوتِ، وكَسَدت.
فإِن قيل: "مال وجه التشنيعِ علينا في هذا، وعقوبة الذنبِ قد تكون مِن جنسِه