مذهب الحبريّة.
ثمّ لهم في الفرق بين الخلق والكسب عباراتٌ. فقيل: "الخللق ما وَقع بقدرة الخالق على وجهٍ لا يَتَفرّد به". وقيل: "الخلق ما تَعلَّقَت به قدرةُ القادرِ عليه من جميع الوجوه؛ والكسب إِنما تَتعلَّق به قدرةُ القادرِ عليه بوجهٍ ما". وقيل: "الخلق يُصيِّر العدمَ وجودًا من غير تغيُّرِ الفاعلِ بفعلِه وتركِه؛ والكسب مقدورٌ، إِذا وَقَعَ، اتَّصَف القادرُ عليه بفعلِه وتركِه؛ ككونه عاصيًا، أو مطيعًا، أو متحرِّكًا، أو ساكنًا". قلتُ: هذا ينزِع إِلى قول من يزعم أنّ ذات الفعل واقعةٌ بقدرة الله، وكونه طاعةً ومعصيةً يَقع بقدرة العبدِ. وسيأتي، إِن شاء الله، قريبًا.
فحينئذٍ، ها هنا ثلاثة أسماءٍ: "الخلق"، وهو مختصُّ بالله سبحانه؛ و "الكسب"، وهو مختصّ بالعبد؛ و "الفعل"، وهو مشترَكٌ، نحو {فعال لما يريد}؛ {بما كانوا يفعلون}.
فقال الأشعريّ: "لا تأثير لقدرة العبدِ على مقدوره أصلّا؛ بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله". قلتُ: فحقيقة مذهبِه أنّ الأفعال مقدورةٌ مخلوقةٌ لله سبحانه، بواسطة خَلقِ القدرة علهيا. فالعبد يتلقّى أفعالَه عن قدرتِه؛ وقدرتُه تتلقّاها عن قدرة البارئ سبحانه. والأفعال تمرُّ على قدرة العبد مرورَ جوازٍ، لا مرورَ تأثُّرٍ.
وقال القاضي: "ذاتُ الفعلِ واقعةٌ بقدرة الله تعالى؛ وكونُه طاعةً ومعصيةً، بقدرِة العبد". قلتُ: فذاتُ الفعلِ، نحو كونه حركةً أو سكونًا، وصفتُه، نحو كونه زِنًا أو صلاةً. وذلك توسّطٌ منه بين المذهبين؛ لأنّه قام الدليلُ عنده على أنّ الأفعال مخلوقةٌ لله؛ ثمّ رآه ممدوحًا ومذمومًا ومنهيًّا ومأمورًا ومعاتبًا وموبَّخًا. فاحتاج أن يجعل لذلك مستندًا؛ وهو صفة الفعلٍ، كما ذكر.