فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرا في وقائع لا يستغني فيها عن المشاورة, فتفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا لها, وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا, وأقبلوا على الله عز وجل بكنه اجتهادهم, كما نقل من سيرهم.
فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوا بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام, واضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم, وكان قد بقى من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول وملازم صفوا الدين, ومواظب على سمت علماء السلف, فكانوا إذا / طلبوا هربوا وأعرضوا, واضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات, فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم, فاشرأبوا لطلب العلم توصلا إلى نيل الغرور ودرك الجاه من قبل الولاة, فأكبوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة وتعرفوا إليهم, وطلبوا الولايات والصلات منهم, فمنهم من حرم, ومنهم من أنجح, والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال, فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين, وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم, إلا من وفقه الله عز وجل في كل عصر من علماء دينه.
وقد كان أكثر الإقبال في تلك الإعصار على علم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجة إليها في الولايات والحكومات, ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من سمع كلام الناس في الناس في قواعد العقائد, ومالت نفسه سماع الحجج