العبودية هي الحالة التي يحب الله عز وجل أن يراها بادية على خلقه، وعلى قدر تمثلها فيهم تكون ولايته ونصرته لهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، وفي المقابل فإن من أكثر الأمور التي تغضبه سبحانه هو تمرد المرء على ارتداء رداء العبودية، واستبداله برداء العز والكبر .. ففي الحديث: " العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته " (?).
فالكبر مناف للعبودية، لذلك فهو من أكبر الذنوب وأخطرها، وصاحبه يحرم من المعية والتوفيق والولاية والنصرة الإلهية: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146].
إن الشرف العظيم للإنسان أن يكون عبدا لله عز وجل، يسأله دوما حاجته، ويطلب منه الحماية والنصرة، والعون والمدد، فإذا ما استكبر عن ذلك، وظن أن بمقدوره العيش في الحياة دون معونة من الله فقد ظلم نفسه، وطغى طغيانا لا حدود له، ومن ثَمَّ كان العقاب الأليم في انتظاره: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
هناك أسباب كثيرة لارتداء العبد رداء العزة والكبر، وتمرده على رداء العبودية، لعل من أهمها وأخطرها على المسلم: الشعور بالعزة والرفعة على غيره وذلك بسبب ما حباه الله من الامكانات، وبما أكرمه وهداه إلى فعل الطاعات، فينخدع بذلك، ويظن أن عنده شيئا ذاتيا يملكه ليس عند غيره، فيتكبر به ويتعاظم في نفسه فتصبح هذه الإمكانات وتلك الطاعات التي أكرمه الله بأدائها حجة عليه لا له ... قال صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يُكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم" (?).
بل إن صاحب الذنب المنكسر الذي يرى نفسه أقل الناس شأنا قد يكون عند الله أفضل منه.
تأمل معي - أخي القارئ - هذا الحديث: قال صلى الله عليه وسلم: " كان رجلان في بني إسرائيل متواخيان، وكان أحدهما مذنبا، والآخر مجتهدا في العبادة، وكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر. فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلِّني وربي، أبُعِثْت عليَّ رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقُبض روحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً، أو كنت على ما في يدي قادراً؟! وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار" (?).
ويؤكد على هذا المعنى ابن عطاء الله بقوله: معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.
وكذلك قال بعض السلف - كما ينقل عنهم ابن القيم-: إن العبد قد يعمل الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار. قالوا: كيف ذلك؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه، إن قام، وإن قعد، وإن مشى: ذكر ذنبه، فيحدث له انكساراً، وتوبة، واستغفاراً، وندماً، فيكون ذلك سبب نجاته.
ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه، إن قام، وإن قعد، وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجباً وكبراً ومنة، فتكون سبب هلاكه.
فيكون الذنب موجبا لترتيب طاعات، وحسنات، ومعاملات قلبية، من خوف الله، والحياء منه، والإطراق بين يديه منكساً رأسه خجلاً، باكياً، نادماً، مستقيلاً ربه، وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة، وكبراً وازدراء بالناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.