وفي كتابه - مقومات التصور الإسلامي - يؤكد سيد قطب - رحمه الله - على هذا المعنى فيقول: إن الطمأنينة إلى الله، بعد معرفته بصفاته كما يعرضها القرآن، لا تعدلها طمأنينة، ولا يعدلها شيء من أشياء هذه الدنيا، وإنه لتمر بالإنسان أحداث ولحظات يشعر فيها بقيمة هذه المعرفة شعوراً كاملاً واضحاً عميقاً، ولكنه قد ينسى أو يغفل حتى تذكره تلك اللحظات والأحداث! وإن الرضا والأنس والبشاشة والتوجه والطمأنينة والثقة والراحة التي تسكبها تلك المعرفة لأمور تذاق ولا توصف، وأقرب ما يصورها المنهج القرآني في مثل تلك الإشارات:
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
إن العبودية هي الحالة التي يحب الله عز وجل أن يراها متمثلة في عباده، وعلى قدر تمثلها فيهم يكون رضاه عنهم، وقربه منهم.
ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: " ما من حالة يكون العبد عليها أحب إلى الله من أن يراه ساجدا يُعفر وجهه في التراب " (?).
بل إن أي وقت يحدث فيه للعبد انكسار فإن الله عز وجل يعامله في هذا الوقت معاملة خاصة، فالمريض - على سبيل المثال - يكسره المرض، لذلك تجده - سبحانه - قريبًا منه، بل ويحثنا على عيادته للتخفيف عنه كما جاء في الحديث: «أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده .. » (?).
يقول ابن القيم: (وهذا - والله أعلم - هو السر في استجابة دعوة الثلاثة: المظلوم والمسافر والصائم، للكسرة التي في قلب كل واحد منهم. فإن غربة المسافر وكسرته مما يجد العبد في نفسه، وكذلك الصوم فإنه يكسر سَوْرَة النفس السبعية الحيوانية ويذلها) (?).
ومما يؤكد أن العبودية من ذل وانكسار، وخضوع وتواضع هي الحالة التي يحبها الله عز وجل من العبد ما حدث للمرأة البغي التي سقت الكلب الظمآن وما تلا ذلك من مغفرة الله لها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فسقته، فغُفر لها به " (?).
(فما قام بقلب البغيّ التي رأت الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها، وهو ملآن، حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق التي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا. فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فغفر لها) (?).
من هنا ندرك قول أحد الصالحين: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام. فلم أتمكن من الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوق .. فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو - سبحانه - قد أخد بيدي وأدخلني عليه.
وكذلك قول أحدهم: لا طريق أقرب إلى الله من طريق العبودية (?).