فلا سبيل لحدوث السلام الداخلي، والشعور بالسعادة والطمأنينة والسكينة إلا من خلال العيش في حقيقة العبودية والتجلبب بجلبابها، ولِمَ لا ومن خلالها يشعر المرء بالأمان وهو يعيش في كنف ربه المقتدر الذي يملك كل شيء، ويقدر على فعل أي شيء يريده، ويستطيع أن يحفظه من كل سوء، ويؤمن مخاوفه، ويحميه ويستره: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62، 63].
فعلى سيبل المثال: الخوف على مستقبل الأولاد وهو أمر يتملك مشاعر الكثير من الناس فيجعل كل همهم جمع المال ليؤمنوا لأولادهم مستقبلهم .. هذا الخوف لا يتملك من يرتدي رداء العبودية لله عز وجل، وكيف يتملكه وقد طمأنه ربه وقال له: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9].
وما دام العيد يوقن أن الله هو الذي يكفل الجميع ويكلؤهم بالليل والنهار ففيم الخوف؟!
ويؤكد ابن القيم على هذا المعنى فيقول: ففي القلب شَعْث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته.
وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته.
وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه.
وفيه فاقه لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم يسد تلك الفاقة منه أبدًا (?).
معنى ذلك أن خير أوقات المرء هي تلك الأوقات التي يحدث فيها سلام داخلي بين جوهر حقيقته كعبد وبين ما يعيشه من معاني العبودية ..
يقول ابن عطاء: خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك، وترد فيه إلى وجود ذلتك.
وفي نفس المعنى يقول ابن تيمية: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
فبالعبودية يدخل المرء جنة الدنيا ونعيمها الذي لا يشبهه أي نعيم آخر.
يقول ابن القيم: فمحبة الله تعالى، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته، وإرادته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وقرة عين المحبين، وحياة العارفين.
ويحكي عن شيخه - ابن تيمية - أنه قال مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أني رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
ويستطرد ابن القيم قائلا: وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا، وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم والمسابقة إليها (?).