إذًا من فعل ما في وسعه وطاقته فإنه يخرج من عهدة المطالبة، فلا ضمان عليه ولا إثم وينزل منزلة من فعل المأمور على وجه الكمال، وهذه القاعدة أصل من أصول الشريعة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا) ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فكل من اتقى ما استطاع فلا ضمان عليه ولا يطالب بالإعادة، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فأتوا منه ما استطعتم) دليل على وجوب بذل الجهد؛ لأنه ببذله يعمل القدر المستطاع فيكون مأمورًا به وما عداه فلا يطالب به لمفهوم المخالفة، فعلق وجوب فعل المأمور أو بعضه بالاستطاعة وهذا من فضل الله علينا وتيسيره على عباده، فالحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
وإليك بعض فروع هذه القاعدة فأقول: منها: من اشتبهت عليه القبلة في السفر - ومن المعلوم أن استقبالها واجب - فماذا يفعل؟ نقول: يجب عليه بذل الجهد والوسع في كشف جهة القبلة بالدلالة أو النظر في العلامات ونحوها، فإذا اجتهد وبذل وسعه وطاقته في التعرف على جهة القبلة فصلى ثم تبين له بأخرة أن القبلة ليست هي جهة اجتهاده فإنه لا ضمان عليه أي لا إعادة عليه؛ لأنه بذل ما في وسعه، ومن بذل ما في وسعه فلا ضمان عليه؛ ولأنه فعل ما أمر به شرعًا وهو البحث والاجتهاد وإفراغ الوسع والطاقة، فلا يحمل غير ذلك، بل ومن تمام فضل الله على هذا الرجل أن يكتب له كأجر صلاة من صلى إلى الجهة الصحيحة، وبهذا تعرف خطأ من ذهب من العلماء بوجوب الإعادة إن كان في الوقت، وهو قول مجانب للصحة، بل الصواب أن صلاته الأولى مجزئة ومسقطة للمطالبة ولا ضمان عليه.