وأما النظر فلأن الحاجة للبيان لا تكون إلا عند الحاجة للعمل، فعندها حينئذٍ يحتاج المكلف إلى البيان، أما قبله فإنه لا يحتاجه إلا للعلم والمعرفة فقط، فلا يستحيل عقلاً أن يتأخر البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة لعدم الحاجة، وهذا من اتفاق العقل والنقل، وعلى هذا نقول باختصار: إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بالاتفاق، وأما تأخير البيان إلى وقت الحاجة فجائز على الصحيح.
وفي ذلك قال الناظم في المنظومة السنية:
ويحرم التأخير في البيان عن ... توقيته ليس إليه فافهمن
وإتماماً للفائدة نذكر بعض الفروع على هذه القاعدة حتى تتضح أكثر فأقول:
منها: أنه يستدل على طهارة ما صاده الكلب وأنه لا يجب غسله أعني غسل ما صاده سبعًا إحداها بتراب، يستدل على ذلك بقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} فأمر بالأكل مما صاده الكلب وأمر بذكر اسم الله عليه، ولم يأمر بغسل الصيد مما يدل على عدم وجوبه إذ لو كان واجبًا لذكره لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وكذلك في حديث عدي ابن حاتم أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيد الكلب فقال: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل) فرتب الأكل على أمرين على قصد الإرسال مع ذكر اسم الله عليه، ولم يذكر اشتراط غسل ما صاده مما يدل على عدم وجوبه إذ لو كان واجبًا لذكره؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ ولأن هذا حكم تعم به البلوى أعني الصيد بالكلاب ويحتاج إلى بيان فلما لم يبين ذلك دل على عدم وجوبه إذ لا يمكن إهماله مع شدة الحاجة إليه وهذا هو الراجح؛ ولأنه فعل يتكرر فيشق فأوجب التخفيف؛ لأن المشقة تجلب التيسير.