باب
قد أجمع العقلاء على إصابة المطلوبات الغائبة عن الحواس بدلائل العقول، كإجماعهم على إصابة الحاضر بالحواس، حتى إنك لا تكاد تجد أحداً خالياً عن الاستدلال لمصالحه برأيه عن عقله، وحتى لم تكن الحجج السمعية حججاً إلا باستدلال عقلي، ولا يقع الفرق بين المعجزة وبين المخرقة، والنبي والمتنبئ إلا بنظر عن العقل، وكذلك تعرف النار مرة ببصرك ومرة بدخانها مستدلاً عليها بعقلك، لا طريق للعلم إلا طريق الحواس أو الاستدلال بنظر عقلي في المحسوس ليدرك لما غاب عنها.
[قالوا: ولا خلاف في هذا بين العقلاء].
وإنما اختلفوا بعد هذا؟
فقال بعضهم: لا يعرف الله بمجرد دلائل العقول حتى تتأيد بالشرع.
وقال بعضهم: يعرف ولكن لا يجب الاستدلال إلا بالشرع.
وقال بعضهم: يعرف ويجب الاستدلال قبل الشرع.
وقال بعضهم: لا نشتغل بهذا لأن الله تعالى لم يدعنا والعقول، فلا معنى للاشتغال بشيء لم نبتل به.
وقد قال علماؤنا: لا يقاتل من الكفار من لم يبلغه دعوة إلا بعد الدعوة، وإن قوتلوا وقتلوا لم يضمن لهم شيء.
وقال الشافعي: يضمن، وقال أيضاً: إنهم يعذرون في الآخرة فجعلهم كأطفال المسلمين.
ولا نص عن علمائنا في"المبسوط"إلا ما ذكرنا من هدر الدماء، وإنه لا يدل على إلزام الكفر بترك الاستدلال حكماً فإن المسلم منهم عندنا هدر دمه ما لم يحرز نفسه بدار الإسلام.
وقد قال علماؤنا في الصبي إذا عقل وأسلم: صح إسلامه ولو لم يستدل بعقله، ولم يجز كلمة الشهادة على لسانة لم نحكم بكفره وإن امتنع بعد الاستيصاف بل كان في حكم المسلم ما لم يبلغ، ولو امتنع بعد البلوغ كفر بالله لأن خطاب الشرع بالأداء ساقط قبل البلوغ فصار معذوراً، وإن عقل فاحتمل مثله بعد البلوغ قبل أن يبلغه دعوة أحد فلا