واحدة، ولأن الحق لو كان حقوقاً لجاز للعامي الذي يعمل باتباع العلماء أن يختار من كل مذهب ما تهواه نفسه.
كما أن الله تعالى لما أثبت الكفارة في باب اليمين أنواعاً كان للعبد الخيار بينها على ما يهواه بلا دليل.
ومن أباح هذا فقد أبطل الحدود، وشرع طريق الإباحة وبنى الدين على الهوى، والله تعالى ما نهج الدين إلا على دليل غير الهوى من نص ثابت بوحي أو قياس شرعي على ما بينا.
ومن جعل الحق حقوقاً أثبت الخيار للعامي بهوى نفسه.
ومن قال الحق في واحد ألزم العامي أن يتبع إماماً واحداً وقع عنده بدليل النظر أنه أعلم ولا يخالفه في شيء بهوى نفسه.
فإن قيل: أليس القياسان إذا تعارضا ثبت للمجتهد الخيار يعمل بأيهما شاء؟
قلنا: نعم، ولكن لا بهوى نفسه بل بالضرورة. فإن الحق في أحدهما، ويلزمه العمل به، ولم يبق قبله لله تعالى دليل يوصله إليه غير شهادة قلبه فلزمه العمل بها على ما مر أنها من حجج الشرع في مثل هذا الموضع، فإذا عمل بأحدهما لزمه الإعراض عن الآخر إلا بدليل يدل على الحقية فيه، ولما ذكرنا أن القياس خلف عن الوحي والثابت بالوحي من الأحكام ثابتة على أنها لا تخص قوم دون قوم على ما قاله الأولون فكذلك بالقياس لا يجوز أن يثبت على الخصوص وعلى العموم إجماع على امتناع الحظر والإباحة في ساعة واحدة على وجه يجب العمل بهما، لأنه لا يمكن، ولا يجتمعان لأنهما ضدان، والقياسان إذا اختلفا فأوجب أحدهما حظراً فإنما أوجب على وجه يجب العمل به.
وكذلك الذي أوجب الإباحة أوجب على هذا السبيل اعتقاداً، وهذا قول لم يقل به أحد إلا أنهم جوزوا ذلك في قومين مختلفين، وأنه قول ساقط لأن الدليل هو القياس، وأنه حجة على الكل ولأنا ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص قوماً بحكم فالقياس لا يكون حجة إلا على ما ورد به النص.
فأما الجواب عن قولهم أن فيه تكليف ما ليس في الوسع: فإن لا نكلفهم إصابة الحق عند الله تعالى لما لم يكن لله تعالى عندهم دليل يوصلهم إلى الحق بعينه، ولكن نكلفهم الاجتهاد للإصابة فإن أصابوا أجروا وإن أخطأوا عذروا.
والحجة للذين قالوا من أخطأ يقيناً صار مخطئاً من الأصل قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول معاذ وقول عبد الله: وإن أخطأت، والخطأ المطلق هو الخطأ ابتداء وانتهاء.
وإنما ألزمنا المجتهد العمل بقياسه على تقدير نه صواب كما يلزمنا العمل بالنص على تقدير أنه غير منسوخ، ومتى ظهر انتساخه بطل العمل به.