باب
أما الاستحسان لغة: فوجود الشيء حسنا، يقال استحسنت كذا، اعتقدته حسنا واستقبحته على ضده، وعن هذا ظن بعض الفقهاء أن من قال بالاستحسان فقد ترك القياس، والحجة الشرعية باستحسانه تركها من غير حجة شرعية فطعن بهذا على علمائنا وإنما هذا تفسير الاستحسان لغة.
فأما عند الفقهاء الذين قالوا بالاستحسان: فاسم لضرب دليل يعارض القياس الجلي، حتى كان القياس غير الاستحسان على سبيل التعارض، وكأنهم سموه بهذا الاسم لاستحسانهم ترك القياس أو الوقف عن العمل به بدليل آخر فوقه في المعنى المؤثر أو مثله، وإن كان أخفى منه إدراكا ولم يروا القياس الظاهر حجة قاطعة لظهوره ولا رأوا الظهور رجحانا بل نظروا إلى قوة الدليل في نفسه من الوجه الذي يتعلق به صحته.
ولم يكن غرضهم من هذه التسمية والله أعلم إلا ليميزوا بين الحكم الأصلي الذي يدل عليه القياس الظاهر، وبين الحكم الممال عن تلك السنن الظاهرة بدليل أوجب الإمالة فسموا الذي يبقى على الأصل قياسا، والذي يمال استحسانا هذا كما قال أهل النحو، هذا نصب على التفسير، وهذا نصب على الظروف، وهذا على المصدر، وهذا على التعجب، وهذا لأنه مفعول ليمكنهم التمييز بين الأدوات الناصبة.
وقال أهل العروض هذا من البحر الطويل، وهذا من المديد، وهذا من المتقارب في أشباه لهذه كثيرة، وسموا أحرف التقطيع سببا ووتدا وفاصلة.
قال محمد بن الحسن - رحمه الله - في كثير من المواضع: بالقياس كذا، وبالاستحسان كذا، وبالقياس نأخذ وأخذوا في الأكثر بالاستحسان فعلم أنهما اسمان لدليلين متعارضين كالكتاب والسنة.
وقال في بعض المواضع القياس كذا، ولكني استقبح مكان قوله: استحسن واستقباح العمل بدليل الشرع كفر فثبت أنه استقبحه لدليل آخر يعارضه فمتى تعارض الدليلان في حكم الحادثة وأحدهما رأي ظاهر طريقه واضح سبيله والآخر خفي أثره، سر خبره، فالظاهر قياس والآخر استحسان، والترجيح بينهما بالطرق التي مرت في باب مراتب القياس وسائر الأدلة والأخذ واجب بالراجح منهما، فصار الفصل المستحسن هو