قال القاضي رضي الله عنه: خلق الله تعالى بني آدم على الفطرة وإنما استدرجهم إبليس إلى الضلال بطرق الحق، ورأس الطرق التقليد فقلد العالم عالما اهتماما لرأيه، وإتباعا لفقهه وظنه دينا، وما دعاه إليه إلا الكسل فإنه لو اجتهد لوفق لمثله فرآه الجاهل فقلد عالما سمعه بغير استدلال على فقهه، فإذا قد قلد جاهلا فضل ثم قلد أباه وأهل زمانه حتى عبدوا الأحجار، وما تبدلت الأديان إلا بتقليد العامة علماء السوء فإنهم لما قلدوا وأحبوا الرياسة مباراة علماء الحق أبدعوا ما حسن لدى العامة وطعنوا في متبعي السنة حتى تبدل الدين بأصله.
فالتقليد رأس مال الجاهل وسببه جهل المرء بقدره حتى اتبع رجلا مثله بلا حجة ثم الذي يليه الإلهام فصاحبه اتبع قلبه وقلده بلا حجة له بناء على أنه خلق على نور الفطرة وجهلا بهوى نفسه حتى ادعى رتبة الأنبياء عليهم السلام لنفسه، واتخذ إلهه هواه، كما اتخذ المقلد آلهة خشبا فهذا رفع قدره جهلا والأول وضع قدره جهلا فهلكا وما هلك امرئ عرف قدره فمن رام الاحتراز عنهما فليبن أمره على الكتاب، والخبر ثم الاستدلال والنظر وما التوفيق إلا بالله.
وكان الناس في الصدر الأول أعني الصحابة والتابعين والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين يبنون أمورهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة ثم من أقوال من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصح بالحجة فكان الرجل يأخذ بقول عمر رضي الله عنه في مسألة، ثم يخالفه بقول علي في مسألة أخرى وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه أنهم وافقوه مرة وخالفوه أخرى على حسب ما يتضح لهم بالحجة.
ولم يكن المذهب في الشريعة عمريا ولا علويا بل النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا قرونا أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، فكانوا يرون الحجة لا علمائهم ولا نفوسهم فلما ذهبت التقوى من عامة القرن الرابع، وكسلوا عن طلب الحجج جعلوا علمائهم حجة واتبعوهم فصار بعضهم حنفيا، وبعضهم مالكيا وبعضهم شافعيا يبصرون الحجة بالرجال ويعتقدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب ثم كل قرن بعدهم اتبع عالمه كيف ما أصابه بلا تمييز حتى تبدلت السنن بالبدع وضل الحق بين الهوى، ونشأ قوم من الحبية فزعموا أنهم أحباء الله عجبا بأنفسهم، وأن الله تعالى يتجلى لقلوبهم ويحدثهم، فرأوا لذلك حديث أنفسهم حجة واتخذوا أهواءهم آلهة فلم يبقى عليهم سبيل للحجة، والعياذ بالله.