وأنتم محدثون، ولكن سقط ذكر الحدث اختصارًا لما في الآية ما يدل عليه على ما عليه لسان العرب، ونحن لم ننكر الاختصار والوقوف عليه، والزيادة بدلالة النص وإنما أنكرنا الزيادة بالرأي فإنها تجري مجرى النسخ لا مجرى التخصيص، على أن التخصيص عندنا لا يجوز ابتداء الرأي.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقض القاضي حين يقضي وهو غضبان". كناية عن القضاء وهو مشغول القلب عرف ذلك بدلالة الإجماع كما صار قوله: "فلا تقل لهما أف" كناية عن الإيذاء حتى صار الشتم بمنزلته، عقل ذلك بدلالة محل الخطاب ما هو من التعليل بالرأي للقياس في شيء.
وكذلك خبر الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جعلنا قوله "مثلًا بمثل" عبارة عن قوله: "كيلًا بكيل" بنص آخر فقال: "كيلًا بكيل"، وبالإجماع لا بالرأي، وإذا صار هذا كيلًا بكيل صار قوله صلى الله عليه وسلم: "والفضل ربا" فضل من حيث الكيل الذي كان المساواة به ضرورة ما عقل شيء من ذلك بالرأي، والتعليل، وإنما التعليل بالكيل لبيان علة الحكم، وهو أن المماثلة كيلًا بأي علة وجبت شرطًا لجواز قفيز حنطة بحنطة والفضل بأي سبب حرم، وهذا التعليل ليس يغير حكم النص على ما نبين في موضعه.
وأما قول عامة العلماء فلأن دوران الحكم معه وجودًا وعدمًا لا يدل على الصحة، لأن الحكم كما يدور وجوده مع العلة فيدور مع الشرط، ألا ترى أن من قال لعبده: أنت حر إن كلمت زيدًا، دار وجود العتق مع الكلام، وهو شرط كما دار مع قوله أنت حر، وهو علة فلا بد من شيء زائد يميز بين العلة والشرط.
فإن قيل: إن أصل الدوران مع العلة دون الشرط فالشرط لا يصير شرطًا إلا بتعليق به.
قلنا: إن العلل الشرعية ما صارت عللًا إلا بتعليق الشرع الوجوب بها، فكانت كالشروط في هذا المعنى.
ولأنا وإن سلمنا هذا لكم فقد احتمل الدوران أن يكون مع الشرط دون العلة، ولما احتمل لم يصر حجة موجبة مع الاحتمال على ما مر في أصل الباب، وكذلك وجود الحكم مع انعدام الوصف لا يدل على الفساد لجواز أن يكون بقي لعلة أخرى فجائز بالإجماع وجود الحكم بعلل كثيرة، ولا ينعدم إلا بزوالها كلها، وما بقيت واحدة بقي الحكم حسب البقاء بالكل، ويدل عليه أن حد العلة ما يتغير به حكم الحال فيكون التغير موجب تلك العلة وأثرها فيستدل بذلك الأثر على كون الحال علة، لأن كل وصف لا يحس لا يستدل عليه إلا بأثره.