فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سن لكم معاذ سنة حسنة فاستنوا بها" فهذا معاذ ترك السنة برأي نفسه وحمد عليه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خرج لصلح بين الأنصار، فصلى أبو بكر بالناس فقدم رسول الله، وأبو بكر في الصلاة فصفق الناس وأبو بكر لا يلتفت فلما أكثروا التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك فرفع أبو بكر يده وحمد الله ثم استأخر فكان التأخر بالرأي على خلاف الأمر والرفع والحمد بالرأي بخلاف النهي.
وكذلك الإمامة كانت بالرأي وكانت السنة في الإمامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًا رضي الله عنه بكتاب الصلح عام الحديبية فكتب: هذا ما عهد رسول الله وسهيل بن عمر، فقال سهيل: لو علمنا انك رسول الله ما كذبناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: امح رسول الله، فقال علي: ما أنا بماح. فمحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فخالف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه، ولم يكن خطأ.
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة على المنافق فجر عمر رضي الله عنه رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعه من الصلاة، وإنما فعل برأيه بخلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية على موافقة رأيه.
وكذلك حد شرب الخمر ثبت باجتهادهم وإنه باب لا يعرف بالاجتهاد، وهذا القول قريب من الأول لأن شرف الأمة بقدر طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزمنا بقولنا: إنهم خير القرون، أنهم كانوا أطوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم منا.
ومن قال غير هذا كان منكرًا من القول وزورًا، ولم يكن إثبات كرامة لهم، بل كان طعنًا فيهم أشد طعن بلا شك.
فكيف يقال غير هذا وهم كانوا قدوة الأمة بالكتاب والسنة المشهورة فلو جاز لهم الخلاف بالرأي لجاز لنا، بل كان الواجب إذا أجمعنا أنهم خير الأمة أنهم كانوا أشد طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منا، ولزمنا طلب تأويلات ما تصور خلافًا ظاهرًا حتى يصير طاعة وتعظيمًا باطنًا.
ووجه ذلك من طريق الفقه أن يكون الأمر محتملًا جهة الرخصة أو الإكرام على وجه يجوز ولا يجب، ومحتملًا جهة العزيمة فكان الترك من الصحابي على تأويل جائز الترك به كان تبين له ذلك الوجه بدلالة حال أو بغيرها من الدلالات، نحو صنيع معاذ في متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسبوقًا في صلاته لأن النصوص باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كانت نازلة قطعًا فحمل معاذ ما أمر به من فعل ما سبق به أولًا على الرخصة فإنها أيسر والاتباع عزيمة فكانت سنة حسنة.