وقال الله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وبصر القلب برأيه، والعرب تقول وكانت على الجاهلية: السعيد من وعظ بغيره، ولا إمكان إلا بعد استعمال الرأي والاعتبار بما كان، والانزجار عن مثل سبب من هلك قبله به.
والله تعالى يقول: {ولكم في القصاص حياة} وفيه هلاك حسًا، وإنما الحياة في الاعتبار له بمن قتل، فقتل لينزجر عن القتل ابتداء فلا يقتل جزاء، وهذا ضرب من الرأي واستعمال الرأي لا بد من القول به.
وكل إنسان إذا تأمل في حاله لم يجد لنفسه قوامًا إلا بهذا الضرب من الاعتبار فما سخر الآدمي غيره مما في الأرض إلا بالرأي.
وما تفاوتوا في درجاتهم العاجلة إلا بتفاوتهم في الآراء ومتى ثبت هذا ثبت مثله فيما يختلف فيه فإن الله تعالى كما بين إهلاك قوم بكفرهم وأمر الباقين بالاعتبار بهم لينزجروا عن الكفر فلا يهلكوا فكان اعتبارًا واجب العمل به.
فكذلك إذا بين اسمًا أو صفة فعلق به حكمًا من أحكامه وجب الاعتبار به في أصل آخر ووجب إثبات الحكم فيه متى وجد الوصف فيه، فإنه لا فرق بين حكم هو تحليل أو تحريم تعلق بوصف هو كيل وبين حكم هلاك تعلق بوصف هو كفر.
فإن قيل: نحن نستجيز ذلك إذا ثبت التعلق بالنص كما ثبت تعلق الهلاك بالكفر نصًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الهرة ليست بنجسة لأنها من الطوافين والطوافات عليكم" ثم الحكم يثبت في الفأرة اعتبارًا بالهرة.
وكذلك روى أن ماعزًا زنا وهو محصن فرجم، ثبت بالزنا في حال الإحصان في غير ذلك الحكم لأنا عرفنا العلة سماعًا وإنما أنكرنا إثبات العلة بالرأي نحو قولكم: إنما صار الفضل من الحنطة بالحنطة ربا لعلة الكيل، والجنس على الخصوص من بين سائر الأوصاف التي يشتمل عليها اسم الحنطة بالحنطة بالنص فإنكم ما أثبتم الوصفين على الخصوص علة إلا بالرأي.
قلنا: إنا ما خصصنا إلا من الطريق الذي وجب تخصيص الزنا لإيجاب الرجم من ماعز وإحصانه، فماعز كان موجودًا قبل الزنا وكذلك إحصانه، ولا رجم فلما زنا ورجم عقيبه، والزنا معصية، والحد عقوبة وقد ظهر أثر المعاصي في إيجاب العقوبات شرعًا وجب الإحالة إليه وجعل قيام الإحصان شرطًا لأنه عبارة عن نعم حميدة من الله تعالى على عبده، ولا أثر لنعم الله تعالى في إيجاب العقوبة فلم تجعل علة بل أثرها في تغليظ