وأما قوله: {ونزلنا عليك الكتب تبينا لكل شيء} فحجة لنا على جواز نسخ السنة بالكتاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة ولم ترد عليه كان تقريرًا من الله تعالى عليه كما لو ثبت بالكتاب، فجاز ظهور بيان مدة البقاء بالكتاب لأن بقاءه من جملة الأشياء، ولم يكن بيانًا لغلط رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حق الكتاب بالكتاب.
ولأن نسخ السنة بالسنة جائز ولا يجوز إلا بوحي غير متلو لما ذكرنا أن انتهاء مدة الحسن عند الله لا يعرفه إلا الله لأن انتهاءها بأن تصير حكمة الشرع في غيرها، وتلك الحكمة مما نقف عليها، ولا نقف، ومما يتعجل، ومما يكون في الآخرة.
ولما جاز بوحي غير متلو فالمتلو أولى ولأن الصلاة إلى بيت المقدس ما كان بالكتاب وإنما كان بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخ بالكتاب.
ولا يقال إنه كان شريعة من قبلنا لأنه لم يتبين أنه كان شرعًا بكتاب.
ولأن المذهب عنده أن شريعة من قبلنا لا تلزمنا إلا بتقرير في شرعنا فيصير ابتداء لا بقاء للأول، وما ثبت التقرير في شريعتنا إلا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولئن كانت القبلة الأولى ثابتة بالكتاب فأهل قباء تركوها بخبر المخبر أنها حولت إلى الكعبة من غير سماع كتاب الله ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا على أن يرد عليهم من جاءه من نسائهم ونسخها قوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار}.
فإن قيل: يحتمل أن تكون لهذه السنن دلائل من الكتاب لكنا لا نقف عليها.
قلنا: قد ذكرنا أنه لا يجوز التأويل بما يجوز مما لا نقف عليه لأنه يؤدي إلى تعطيل الشرائع، وهل يجوز أن يقال أن لكل ملة ودين باطل حجة لكنا لا نقف عليها ومعجزة لكنها باطنة.
وأما نسخ الكتاب بالكتاب: فكقول الله تعالى: {فأذوهما} في باب الزنا، ثم قال: {فأمسكوهن في البيوت}، ثم قال: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}، وقال: {وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا}، ثم قال: {الئن خفف الله عنكم} إلى قوله: {وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله}.
وأما نسخ السنة بالسنة: فنحو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرًا، وكنت نهيتكم عن الشرب في الدباء والنقير والحنتم والمزفت فاشربوا ولا تسكروا، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تدخروها فوق ثلاث فكلوا وادخروا ما بدا لكم". فثبت أن نسخ الكتاب بالكتاب جائز وكذلك بالسنة، وكذلك