لتطرق به الوقف عن العمل بالكتاب كله لاحتمال كل نص أن يكون منسوخًا بآية أخرى لم تبلغنا أو محمولًا على وجه آخر لم نعقله وعقله رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان خفي.
وذكر أبو بكر الجصاص: أن استدلالنا بهذه الآية لا يستقيم لأن الله تعالى قال: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} رتب الإرث على وصية نكرة فكانت غير الوصية المعهودة الواجبة للوالدين والأقربين بهذه الوصية فتكون هذه النكرة هذه الوصايا المشروعة اليوم، لا تلك الوصية الواجبة، ولو بقيت الوصية الواجبة لكان الإرث مرتبًا على تلك الوصية أولًا ثم الوصية النافلة.
فلما رتب هذه على النافلة كان الترتيب بيانًا على أنه لا يزاد عليه ترتيب آخر أولى منه لأن الزيادة كالنسخ على أصلنا، ودل الإطلاق عن الترتيب على الوصية الواجبة؛ على نسخ القيد كما يدل القيد على نسخ الإطلاق على أصولنا.
قال القاضي رضي الله عنه: وإني أقول أن الاستدلال بهذه الآية لا يستقيم من وجه آخر، لأن الله تعالى بين أحكامًا ابتداء للشرع، وقد بين أحكامًا على سبيل الإقامة مقام أحكام كانت فتحولت إلى الثانية لقيامها مقامها، وانتسخت الأولى بها على سبيل الإحالة كما شرع الكعبة قبلة فانتسخ بيت المقدس به على جواز أن يكون للصلاة قبلتان، لأن الله تعالى شرع الكعبة قبلة على سبيل حوالة القبلة عن ذلك البيت إلى هذا البيت.
وإنه في المعاملات كحوالة الدين توجب براءة الأصيل لأن الذمة الثانية اشتغلت به على سبيل الحوالة إليه.
والحوالة توجب البراءة كالعين تحول من مكان إلى مكان فانتسخ الشغل في حق الذمة الأولى مع إمكان الجمع بينهما كما في الكفالة.
وكما لو أدان المحتال عليه دينًا مبتدًأ فكان إيجاب الإرث للأقارب والوالدين محتملًا ابتداء حتى أوجب لهم، ومحتملًا نقل ما جعل لهم بالوصية إلى الإرث، ولما احتمل هذا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" بيانًا أن هذا الإعطاء على سبيل التحويل دون الابتداء.
ولأن الله تعالى كان فوض ابتداء الإيجاب إلى العباد ثم تولى بيانه بنفسه فبطل ما فوض إليهم فجرت آية الإرث على هذا مجرى تفسير ما أثبت لهم من الحق بالوصية كالرجل يأمر رجلًا بإعتاق عبد له بعينه ثم يعتقه بنفسه فإنه تضمن بطلان تلك الوكالة لحصول ما أمر بتحصيله بتوليه، وإليه وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أعطى كل ذي حق حقه" أي الحق الثابت بالوصية لهم صار معطى بالإرث.