قلنا: إنهم نقلوا الصلب بعد القتل, والمصلوب بعد القتل لا يتأمل فيه كل التأمل على ما جرت به العادات, بل يكتفي فيه العلم بالأعلام الظاهرة, والتسامع أنه فلان, وهذا معلوم بين الناس بمن يصلب في أزمنتهم, فإن الذين يباشرونه قوم معدودون, ثم ينقل عنهم ويقع العلم للناس بالتسامع أو النظر إليه من غير تأمل, فإن الطباع تنفر عن التأمل والخلق يتغير بالصلب ويشتبه أيضًا ببعد مسافة النظر, وإذا كان كذلك كان العلم به علم طمأنينة لا علم يقين, وروي أن اليهود كانوا لا يعرفونه, وإنما دلهم عليه رجل يقال له يهوذا وبقول الواحد لا يقع العلم.
والثاني: أن تواترهم أوجب العلم بقتل من علموه عيسى ولم يكن وكان شبيهه على ما قال الله تعالى: {ولكن شبه لهم} , وروي أيضًا: أن اليهود لما دخلوا عليه فال عيسى لأصحابه: من يريد أن يلقي الله عليه شبهي فيقتل وله الجنة, فرضي به واحدًا منهم, فقتل ورفع عيسى من بينهم فلم ير.
فإن قيل: هذا أنكر من الأول, فإنه باب يبطل المعارف أصلًا, ويكذب العيان, ويبطل أخباركم المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم لجواز أن يكون قد شبه لهم, ويبطل الإيمان بالرسل لجواز أن غيرهم تشبهوا بهم, وكيف يجوز ذلك والإيمان بعيسى كان واجبًا, وما كانوا يعرفونه إلا بالعيان, فكان يجب بعد التشبيه, الإيمان بالشبه, وأنه كفر, وما جائز من الله سبحانه وتعالى إلزام الكفر بالحجة.
قلنا: أما التشبيه من الله تعالى غير منكر قدرة, ولا ينكر أيضًا حكمة إذا ألقى شبهه على غير حال دفع القتل عنه, ففي الدفع حكمة عظيمة, والتشبيه دفع لطيف, ولله تعالى لطائف في الدفاع عن الرسل عليهم السلام وعنا. وإنما يستنكر هذا حال الإيمان به فيؤدي التشبيه إلى التلبيس, والله تعالى كان علم منهم أنهم لا يؤمنون به, فشبه لهم وزادهم مرضًا وطغيانًا, ودفع عن عيسى عليه السلام.
وهذا كما تحول إبليس في صور شيخ من نجد مرة, ومرة في صورة سراقة بن جعثم وكلم الناس إغواء للكفرة فلم ينكر, فكذلك تحول عيسى بأقدار الله تعالى عليه.
وكذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما رأى جبريل صلوات الله عليه في صورة دحية الكلبي واعتقده ولم يكن كذلك, وعذر لأنه عمل بما في وسعه ولم يكن كلف غير ما علم حينئذ.
وكذلك الله تعالى قلل المؤمنين في أعين الكفار, وقللهم في أعينهم وصح ذلك للتحريض على القتال, ليقتل المسلمون الكفرة ويشفوا صدورهم منهم فلو كثر المسلمون في أعينهم لرجعوا ما قتلوا, فلما أثبت الله تعالى تقليل المسلمين في أعين الكفار تحريضًا على القتال ليقتلوا, جاز تشبيه غير عيسى به ليصان.
ثم هذا الاحتمال لا يبطل المعارف لأنه يكون معجزة, ونحن خوطبنا بالعمل على ما يكون في العادات الجارية دون البناء على ما يجوز في قدرة الله تعالى وهذا التشبيه كان من قدرة الله تعالى لا من قدرتنا فلا يبتنى عليها الأحكام.
ولأنا لا نجوز هذا الحال الإيمان بالرسول أو النقل عنه فيصير إضلالًا بالحجة, والله تعالى غني عنه.
ولأن الجواب عنه يلزم الجميع فقد سلم لنا مثله فيما نقلنا.
وأما خبر زرادشت فتلك مخاريق أظهرها بحيل على سبيل عرفها المتأملون من ذوي البصائر وقدروا على مثلها إلا ما يحكى أنه أدخل قوائم فرس الملك في البطن ثم أخرج.