عن قريب, فلا يتوهم كتمان المواضعة من الجمع على امتداد المدة, وفي الجمع المؤمنون والمنافقون والجواسيس لأهل الكفر هذا مما ترده العقول, ولا تجد لقبوله مساغًا فيها.
فكان الوقوف على بطلان هذا القول أسهل من الوقوف على معرفة الصانع عز ذكره بآيات الحدث في المحسوسات, فإنا نجد الناس مختلفين في معرفة الصانع ولا نجد أحدًا ينكره ميلاده, وكون السماء قبله قرارًا, وكون آدم أبا البشر, وهل عرفت المعجزات آيات يقينًا على الرسالة إلا بخروجها عن حد معتاد البشر, فكذلك مثل هذا الاكتتام خارج عن معاد البشر, فيقطع القول بعدمها منهم, وكما نكذب اليوم رجلًا يخبر عن عروجه إلى السماء, ومسه, وكلامه الملائكة متى شاء قطعًا, وإن جاز مثله في فدرة الله تعالى, لأنه خارج عن معتاد البشر حتى رددنا شهادة شاهدين على رجل بطلاق امرأته بمكة يوم النحر مع الشهادة أخرى بعتاق عبده ذلك اليوم بالكوفة.
وكيف يتوهم إنكتام هذه المواضعة وكانوا يلقون إلى الكفار بالمودة ويفشون أسرار النبي صلى الله عليه وسلم في باب الحرب, وكان الكفار يتقولون عليه ما لم يكن منه إطفاء لنوره, وهذا على مثال من زعم أن القرآن ليس بمعجز إلا أن العرب لو تشتغل بمعارضته أو جاؤوا بمثله, ولكن المسلمين أخفوه, فكان هذا قولًا مردودًا, لأن العرب لو قدرت عليه لعارضت ولما صبرت عن فعلها, وفيه ذهاب دينهم ومالهم ونفوسهم وحزمهم, لأنه غير متصور مثل هذا الصبر في العادات إلا عن عجز, ولو عارضت لما صبرت عن الإظهار, فإن الحجة كانت تسقط بالإظهار على سبيل المعارضة ما كان يتصور الاختفاء عادة.
وكيف يتصور وغير المسلمين كانوا أكثر من المسلمين وكانوا ينقلون ذلك مثل نقل المسلمين كلام رب العزة, وكيف يتوهم ذلك, ولم تختفِ كلمات مسيلمة, ومخاريف المتنبئين, وهذا القائل قد قال: بأن القرآن بمعجز, وأن السؤال باطل من هذا الطريق, فيبطل بهذا الطريق أيضًا سؤال من ينكر العلم اليقين بالتواتر بدعوى احتمال أو شبهة تردها عادات النفوس.
وأما الجواب عن تواتر الخبر بين اليهود بقتل عيسى عليه السلام فمن وجهين:
أحدهما: أن التواتر غير ثابت, لأن حده أن يساوي الطرف الأول الآخر ولم يوجد, لأن القتل نقل عن الذين دخلوا عليه في بيت للقتل, وقوم يرتدون أن يقتلوا رجلًا في بيت لا بد أن يكونوا بحيث يجتمعون في العادات على الكذب لأنه أيسر من الاجتماع على قتله, وقد روي أنهم كانوا تسعة نفر.
فإن قيل: تواتر الخبر بينهم بالصلب, والصلب مما يعانيه أطوار الناس الذين لا يتواطئون على الكذب عادة.