أنهم مولودون عن أصول، كما تعرف أنهم يلدون فروعًا، ويعرف كل مسلم نحو مكة بالخبر المتواتر كما يعرف نحو بيته بالعيان.
وهذا كما عرفنا الله تعالى محدثًا بالاستدلال، كما نعرف أولادنا حادثة بالعيان فيصير إنكاره بعد ثبوت حد المعرفة على الحقيقة كمن أنكر العيان، وشبهه بما يرى النائم في نومه.
وأما قوله: بأن حد المعرفة على الحقيقة لم يثبت بعد، ولكن وقعت الطمأنينة بغلبة دلائل الصدق كما ذكر في المثل، فليس بقوي، لأن الطمأنينة في الأصل دليل على المعرفة حقيقة، وإنما يحمل على الغلبة بلا حقيقة. بدليل تبين الغفلة من القلب عن النظر في باطن الدليل، وإنما يعرف ذلك بإبانة حد آخر وراء ما تراءى له، كما قيل في رؤيا النائم أنها ليست بحقيقة، وإن كان لا يقف على بطلانها حال ما يرى، لأنا وجدنا لرؤيتها حالة في حياته، وتمييزه فوق هذه الحالة وهي حال اليقظة، وكان ما أرى حالة النوم لضرب غفلة، وأبطلنا تلك الحالة وجعلنا الرؤية يقظانًا حقيقية، لأنه لا حالة له فوق هذا للدرك.
فكذلك ما يطمئن القلب إلى علم بالسماع، فإن اطمأن وبحاله ضرب غفلة، كالداخل على المأتم، لأنه لو تأمل حق التأمل لأصاب جهة الكذب، لجواز تواطئهم على ذلك لأمر أرادوه، ما كان يحصل إلا بما تواضعوا عليه لم يكن موجبًا يقينًا.
فأما إذا سمع أقوامًا مختلفين لا يتواطأ أمثالهم على الكذب عادة لكثرتهم واختلاف أمكنتهم، فلم تكن الطمأنينة بحكم الغفلة عن الكذب، بل بقيام الذليل الموجب للصدق الذي باطنه لو تأمله أكد ظاهره.
وذلك لأن الله تعالى خلق الخلق أطوارًا على همم شتى ما يصدر عنهم فعل أو قول بحكم الجبلة على سنن واحد، بل يكون الحدوث على اختلاف بحسب هممهم وهوى نفوسهم، لأن الحوادث عن علل مختلفة لابد أن تكون مختلفة، فلما أخبروا خبرًا واحدًا، علم أن الإخبار لم يكن من قبل اختراعهم، بل عن أصل جمعهم على ذلك، وذلك سماع اتبعوه، أو اتفاق صنعوه، فإذا انقطع وهم الاتفاق، بقي السماع.
فإن قيل: الناس وإن كثروا لم ينقطع وهم الاتفاق على الكذب، لأن شرط التواتر ليس اجتماع أهل الدنيا، بل أهل بلدة أو عامتهم، وما نقل الرسالة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أصحابه، وكان عسكره وإن كثروا كان يجوز اتفاقهم على ذلك.
قلنا: إن توهم هذا الاتفاق نادر فيما يتوهم كتمان الاتفاق بعد مرور الزمان من جمع عظيم، عشرة آلاف أو عشرين ألفًا فإن الإنسان في نفسه يتعذر عليه كتمان سره حتى يفشيه إلى صديق له ويستكتمه ثم يضيق عنه صدر صديقه فيفشيه إلى ثالث فيصير السر فاشيًا