وإذا كان الراوي فقيهاً لم يتهم، وعلم أنه ما نقل بخلاف القياس بالاجتهاد فإنه عليم بطريقه وعامل به، فلا يظن به تركه برأيه بل بمحكم نص ما احتمل الموافقة، ولهذا رد علماؤنا حديث المصراة، وبيع العرية بالقياس فإنهما لم ينقلا عن فقيه.
ولما ثبت ما قلنا في رواية أبي هريرة فمن لم يبلغه في المنزلة شهرة وصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مثله في باب الرأي والفقه أولى به إلا أن يكون حديثاً نقل السلف عنهم وعملوا به، لأنهم كانوا أهل فقه وضبط وتقوى وكان ظهر منهم رد ما خالف القياس من روايتهم، فيدل قبولهم الواحد من بين الجملة على عملهم بصحته من طريق آخر.
وأما المجهول فخبره حجة إن نقل عنه السلف، وعملوا به لما ذكرنا في الباب الأول.
وكذلك إن سكتوا عن الرد وإن لم يظهر العمل به لأن النقل للعمل به في الأصل، ولو كان مما لا يجوز العمل به في الأصل لما كان يحل لهم السكوت عن بيانه والوقت وقت الحاجة إليه.
فأما قبل الظهور فيعمل به إن وافق القياس ولا يعمل به إن خالف لأنه في الرتبة دون أبي هريرة بكثير، بدليل ما روي أن معقل بن يسار روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق الأشجعية بمثل قضاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بمهر المثل لامرأة كان مات عنها زوجها قبل الدخول بها ولم يكن سمى لها مهراً، فسر عبد الله بذلك وقبله لما وافق رأيه، ورده علي رضي الله عنه لما خالف رأيه.
فإن قيل: كيف تقبل روايته وهو مجهول لم تظهر عدالته ولا ضبطه؟
قلنا: رواية المشهور بالعدالة عنه من غير رد عليه تعديل إياه، ولأن الأصل في العقلاء العدالة والضبط حتى يثبت غيره من واحد على الخصوص أو الجنس على العموم فيصير كل واحد منهم متهماً به وهذا المجهول ما عرف بذلك على الخصوص، وكان من قرن كان الغالب عليهم العدالة والضبط، وهو قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا أمر التابعين والصالحين على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الناس رهطي الذين أنا فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشوا الكذب" فأما اليوم فرواية المجهول لا تقبل حتى تظهر عدالته لغلبة الفسق.
وعلى هذا تأويل قول أبي حنيفة رضي الله عنه في الشاهد أنه يقضى به قبل التعديل، لأنه كان في القرن الثالث.