في هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} [النور:12] دليل على ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن إذا بلغته الشائعة عن أخيه أو أخته المؤمنة من عدم المبادرة بالتصديق، وأنه يجب عليه إذا كان مؤمناً حقاً أن ينزل نفسه منزلة الشخص الذي تُكُلِّم فيه، فهل يرضى أن يقال فيه ما قيل في أخيه؟ فإن كان لا يرضى ذلك فليدافع عن أخيه كدفاعه عن نفسه، وهذه أخوة إيمانية، ووشيجة من الله ربانية، تدل على أن أهل الإيمان ينبغي أن يكونوا بمثابة الرجل الواحد، فإذا طُعن أحدهم فكأنما أصيب الجميع، وقال بعض العلماء: لما كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها أمَّاً للمؤمنين صارت تهمتها بمثابة تهمة للمؤمنين جميعاً، أي: أذيتها وعارها وشنارها على جميع المؤمنين؛ لأنها أم للجميع رضي الله عنها وأرضاها، فجاء تعبير الآية مناسباً لذلك، كما أشار إليه الزركشي في البرهان.
ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، قال بعض العلماء: ومفهوم ذلك أنه يكره لأخيه ما يكره لنفسه.
ولذلك لا يرضى أن يتكلم أحد في أحد من إخوانه المسلمين، وإذا تكلم أحد في إخوانه المسلمين مَنَعَه وزَجَرَه وكَهَرَه، وهذا يدل على ما ينبغي أن يكون عليه المسلم، وقد ترك كثير من الناس إلا من رحم الله هذه السنة التي أوجبها الله وفرضها، وأصبحت الشائعات تدور بين المسلمين، وأصبح من اليسير أن تسمع تهم الناس لبعضهم بعضاً، وكذلك وصْفُهم بما هم منه برآء، فإن كانوا من العامة ألصقت النقائص بهم زوراً وبهتاناً، وإن كانوا من أهل العلم والفضل والدعاة إلى الله عز وجل نُبِزُوا بأشياء هم منها برآء.
وإذا كان الله عز وجل توعد مَن قدح في عرض المسلم بالعذاب العظيم الأليم في الدنيا والآخرة، فكيف بمن اتهم العالم في عقيدته، أو اتهمه بانحراف في فكره، أو نحو ذلك من التهم التي لا تقوم عليها دلائل صحيحة، ولا تشهد لها حجج صادقة؟! فهذا كله مما لا ينبغي أن يتخلق به المسلم، والواجب على المسلم أن يحفظ عرض إخوانه المسلمين، فضلاً عن أن يكونوا من علماء الدين.
وإذا حصل ووقع بين عالم وآخر كلام ووقعت المراجعة والمناظرة، فينبغي لطلاب العلم أن يحفظوا للعلماء حقوقهم، وأن يحفظوا لهم كرامتهم، وألا يستبيحوا أعراضهم، فينزل كل طالب علم نفسه منزلة العالم الذي يُتكلم فيه.
فإن كان مما يُسمح الخلاف فيه؛ كمسائل الفروع ونحوها، فالمفروض عذره في ذلك والتماس العذر له، وهذا هو شأن السلف رحمهم الله، فقد كانوا يحسنون الظن بعامة المسلمين فضلاً عن العلماء.
وإن حصلت الزلة من عالم كأن يقع في خطأ مما لا يوجب خروجه من الشرع، فالواجب تهيئة الوضع له ليراجع نفسه، وذلك بمناقشته ومناظرته بأسلوب يمكنه من إعادة النظر، مع حفظ عرضه عن السب والشتم والثلب فإن الله لا يحب الجهر بالسوء، قال الله عز وجل: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] ، وليس معنى ذلك -كما قررنا غير مرة- أن نترك تنبيه الناس على الأخطاء وبيان الأخطاء، وإنما المراد أن يُفرق بين نقد الذات ونقد الرأي.
فإذا أخطأ العالم في مسألة بيَّنا الصواب في المسألة والتمسنا لذلك العالم ما يوجب حسن الظن به؛ لأن هذا هو الأصل، وأما من خرج من ربقة الإسلام وخرج من الدين بالكلية في عقيدته ونحو ذلك من الأمور الموجبة لخروجه عن الشرع، فهذا لا كرامة له ولا حق له لخروجه أصلاً.
وإنما المراد بذلك أهل العلم والفضل الذين هم على استقامة وديانة وتعبد وحسن بلاء، فمثل هؤلاء ينبغي أن يُحفظ حقهم والله تبارك وتعالى قد يمتحن العباد بفتن مثل هذه، ولو نظرت في تاريخ الأمة لوجدت كثيراً من العلماء تُكلِّم فيهم وانتُقِصوا وانتُهكت أعراضهم بدون حق؛ ولكن جعل الله عز وجل ذلك الانتقاصَ كمالاً لهم، وذلك الكلامَ شهرةً لهم، وذلك التتبعَ لعثراتهم سبباً في شهرتهم ومعرفة الناس بهم، فعلى سبيل المثال: الإمام العالم العامل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه ما اشتهر إلا بسبب أعدائه، وإن كان رحمه الله على علم وفضل وقدم راسخة في العلم والعمل؛ لكن الله سخر له أعداء شهروا به حتى اشتهر رحمه الله وفاق أقرانَه وأصبح كلام الأعداء فيه سبباً في معرفته واشتهاره، ومعرفة فضله رحمة الله عليه.