وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6-7] : هذه الشهادات المراد بها أربعة أيمان؛ أن يحلف أربعة أيمان، فيطلبه القاضي ويقيمه في مجلس القضاء، وقال بعض العلماء: يستحب أن يغلظ عليه فيقيمه عند المنبر؛ لكي يكون ذلك أبلغ في تخويفه بالله عز وجل، ويكون بعد صلاة العصر كالحال في الأيمان التي ذكرها الله في كتابه تغليظاً وزجراً، فيقوم ويشهد أربع شهادات بالله، وحينئذ لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يقصد من الملاعنة إثبات زناها.
الحالة الثانية: أن يقصد إثبات الزنا ونفي الولد، فإذا أراد إثبات الزنا قال: أحلف بالله أن فلانة -ويشير إليها مع ذكر اسمها في مجلس القضاء- زانية، وإذا أراد نفي الولد ضم إلى هذه اليمين قوله: أن فلانة زانية، وأن هذا الولد ليس بولدي، أو أن هذا الحمل الذي منها ليس مني، فيشهد أربع شهادات.
حتى إذا استتم الأربع أوقفه القاضي وقال له: اتقِ الله يا فلان! إنها الموجبة، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، قال بعض العلماء: إنها الموجبة، أي: إذا حلف الإنسان أن عليه لعنة الله -وكان كاذباً- أصابته اللعنة، وأنها إذا حلفت كاذبة أصابها الغضب والعياذ بالله! فأوجبت اليمين الكاذبة منه لعنةً من الله موجِبةً للطرد من رحمته، أو غضباً من الله عز وجل -على المرأة إن كانت كاذبة- موجِباً للبعد من لطفه وعنايته.
يقول هذه الخمس الشهادات حتى إذا استتمها خُيِّرت المرأة بين إقرارها أو تلاعنه، فإذا أقرَّت وزُجرت بهذه الشهادات فلا إشكال، أما إذا أصرت على قولها وبقيت على تبرئتها لنفسها، فالحكم حينئذ أنه يطالبها القاضي بخمسة أيمان؛ أربع منها تشهد فيها بالله عز وجل أنه لمن الكاذبين؛ وأنه قد كذب علي وأني لست بزانية، فإذا كان على نفي الولد قالت: لست بزانية، وأن الولدَ ولدُه، وتشير إليه أو تذكره، أو كان حملاً فتقول: وهذا الحملَ حملُه أو هذا الحمل منه، حتى إذا بلغت الشهادة الرابعة واستتمتها، ذكَّرها القاضي بالله وأوقفها وقال لها: يا فلانة! يا أمة الله! اتقي الله؛ إنها الموجبة أي: أنكِ إذا حلفتِ الخامسة -كاذبة- بأن غضب الله عز وجل عليكِ فإنه سيصيبك الغضب -والعياذ بالله- لا محالة.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما أقام المتلاعنَين بين يديه شهد الرجل خمس شهادات حتى إذا انتهى قامت المرأة فشهدت الأربع شهادات الأولى، فقال لها: (اتقي الله يا أمة الله! إنها الموجبة، فترددت المرأة وتلكأت في كلامها، فلما أرادت أن تعترف قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فحلفت الخامسة) ، فهذا يدل على أنه ينبغي تذكير الزوج وتذكير الزوجة عند اليمين الخامسة، أنه لا يبادِر ولا يعاجَل بها، كل ذلك صيانة له من لعنة الله، وصيانة لها من غضب الله -والعياذ بالله- فإذا استتموا هذه الشهادات الخمس، فحينئذ يحكم القاضي بالتفريق بينهما فراقاً مؤبداً لا تحل له إلى الأبد، ولا يحل لها إلى الأبد -والعياذ بالله-، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما تلاعن الرجل مع امرأته، قال عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب) فهذا يدل على أنه لابد من وقوع الكذب، إما من الرجل وإما من المرأة، نسأل الله السلامة والعافية.
والمقصود بيان حقيقة اللعان وأنه على الصفة التي ذكرناها، وإذا ثبت اللعان ثبتت الفرقة المؤبدة، وحينئذ لا يخلو حالهما من ضربين: الضرب الأول: أن يُكَذِّبَ الرجل نفسه ويرجع عن قوله.
والضرب الثاني: أن يبقى على لعانه، وتبقى المرأة على لعانها.
ففي الحالة الأولى: إذا قال الرجل: كذبتُ عليها، أو قال: هي ليست بزانية، أو قال: الولد مني، فإنه حينئذ يجلد حد القذف.
وهل تعود له امرأته أو لا تعود، وجهان: أصحهما أنها لا تعود له إلى الأبد، وأنها تبقى عليه حراماً ولو كذَّب نفسه.
وإذا حكم القاضي بالتفريق بينهما فالسؤال: ماذا يُصنع بالولد؟ إذا تلاعن الرجل مع امرأته ونفى الولدَ فإن الولد يُنسب إلى المرأة ولا يُنسب إلى الرجل، ويعطى حكم ولد الزنا، وحساب أبيه على الله إن كان كاذباً والعياذ بالله!