ويستطيع المؤرخ أن يلم بنشاط الصحافة المصرية في هذه الحقبة ويوضح اتجاهها جملة فقد رأينا أن الصحافة المصرية دعت إلى أن تعمل مصر لتحقيق مصالحها الخاصة ولا ترتبط بأمة من الأمم فلم تشر إلى تركية أو تتجه إلى فرنسا بل جعلت دأبها خلق رأي عام ممهد خير تمهيد يعتمد على نفسه في تحقيق آماله، لذلك كان فضل الصحافة عظيمًا في هذا الميدان، وإذا كان الصحافة الوفدية قد تكفلت بالقسط الأكبر من الحركتين الدستورية والاستقلالية وكان لها في ذلك أخطر الأثر من غير شك، فإن صحافة الأحرار الدستوريين شغلت الرأي العام بالنواحي العلمية والاجتماعي وبكل رأي حر، وأثارت حفيظة الرجعيين عليها وأبت أن يستبد هؤلاء الرجعيين بكل فكرة جديدة.
وقد أثر عنها عن رجالها أزمات لا تزال الذاكرة تحفظها، فقد أثار تعصب المحافظين نظرة قال بها عالم من العلماء هو "علي عبد الرازق" الذي انتهى في بحثه عن الخلافة إلى ضرورة فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية، واشتد النزاع بين صحافة الأحرار بين حكومة ذلك الوقت، وانتهى الأمر باستقالة الوزارة نفسها ونشأت أزمة دستورية مصرية أعقبها ائتلاف الأحرار مع الوفد، وكذلك حمت صحف الأحرار الدكتور طه حسين من الحكومات وبطشها حين نشر مؤلفه عن الشعر الجاهلي، وكاد أمر طه حسين يفصم الائتلاف بين الحزبين الرئيسين "الوفد المصري والأحرار الدستوريين" في سنة 1927.
وبهذا لفتت جريدة "السياسة" المصريين إلى مسائل لا تتصل بالأمور السياسيين وحدها كما صنعت سياسة الوفد، ولا شك أن الموضوعات التي أثارت والقضايا التي وكلت بالدفاع عنها كانت موضوعات وقضايا تترجم عن أصحاب الفكرة الحرة في مصر وهي موضوعات وقضايا قرأها الشرق الأدنى وليس يعني المؤرخ أن يرفض هذا الشرق المتزمت هذه النظريات الجديدة أو يقبلها وإنما نقرر أن الشرق الأدنى قد أحس أن جريدة "السياسة" ومحرريها يذيعون أشياء لم يعتدها المصريون من قبل.