وأنبل قدراً من ذلك؛ فإنَّ الأحاديث مفهومة المعنى واضحة الدلالة. بل المراد بقولهم: " أمروها كما جاءت " أي مع إثبات المعنى، فليس مرادهم تفويض المعنى وعدم العلم به، وإنما وُجِد هذا عند طائفة من المتأخرين ممن عُرِفوا بالمفوضة: مفوضة المعاني، ولم يكن أحد من السلف مطلقاً على هذه الطريقة. ومن تعلق من المفوضة بمثل هذه المقالة عن السلف فقد تعلق بشيء لا حجة له فيه، بل هو حجة عليه؛ لأنَّ السلف لما قالوا: " أمروها " قيدوا هذا الإمرار بأن يكون " كما جاءت "، والنصوص جاءت محملة بمعاني ودلالات، فإمرارها كما جاءت يكون بإثبات معانيها التي جاءت محملة بها.
ومما يؤكد هذا: قولهم عقب هذه الكلمة: " بلا كيف " فإنَّ نفي الكيفية لا يكون إلا ممن يثبت المعنى، لأنَّ من لا يثبت المعنى، لا يحتاج أن يقول: " بلا كيف ".
وأيضاً لهم مقصود آخر من هذه الكلمة، وهو أن أحاديث الوعيد تترك بدون تفسير، حتى تبقى هيبتها وزجرها وردعها للعوام، وهذا ملحظ يلحظه بعض السلف في نصوص الوعيد حتى تكون أبلغ في الزجر وأقوى في الردع.
وعندما نتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " نجد أنَّه نفى الإيمان عن الزاني، فهل هو نفي لأصل الإيمان بمعنى أن من فعل هذا الأمر الذي هو الزنا أو السرقة ـ كما في بقية الحديث ـ ينتقل من الملة ويخرج من الدين، أم أنَّه نفيٌ لكمال الإيمان الواجب؟
والجواب عن هذا السؤال يتضح بمقارنة الحديث ببقية الأحاديث، فهذا حديث من أحاديث الوعيد، وهناك أحاديث وعد، وعندما يأخذ العبد في هذا المقام أحاديث الوعيد مجردة عن أحاديث الوعد يشتط وينحرف به الفهم